التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
٢
-الأنعام

خواطر محمد متولي الشعراوي

هو سبحانه يأتي لنا بأمر الخلق فأوضح أنه خلقنا من طين، بعد أن تكلم عن أمر خلق السمٰوات والأرض، وهو - سبحانه - قد أخبرنا من قبل ذلك أنه خلقنا من تراب وحمأ مسنون ومن صلصال كالفخار، وهي متكاملات لا متقابلات، وكذلك أوضح الحق أنه خلق كل شيء من ماء، فاختلط الماء بالتراب فصار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً كالفخار وكلها حلقات متكاملة. ونحن لم نشهد الخلق ولكنا نتلقى أمر الخلق عنه - سبحانه - ونعلم أن الطين مادة للزرع والخصوبة.
وعندما قام العلماء بتحليل الطين وجدوه يحتوي على العديد من العناصر، وأكبر كمية من هذه العناصر هي الأوكسجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم الفلور، ثم الكلور، ثم الصوديوم، ثم المغنسيوم، ثم البوتاسيوم، ثم الحديد، ثم السيلوز، ثم المنجنيز وغيرها.
والعناصر في هذا الكون أكثر من مائة، ولكنها لا تدخل كلها في تركيب الإنسان، إنما تدخل في تركيب ما ينفع الإنسان من بناء وزينة وغير ذلك. مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
لقد قام أهل الكفر من العلماء بهذا التحليل وذكروا تلك النتائج التي أخبرنا بها الرسول الكريم في الكتاب المعجز الباقي المحفوظ بأمر الله كحجة مؤكدة. وصان الحق لنا هذه الحجة حتى يأتي عالم غير مؤمن ويتوصل إلى بعضٍ من الحقائق الموجودة في القرآن.
ولم يحضر أحد منا لحظة الخلق، ولكنا نشهد الموت وهو نقض للحياة، ونقض الشيء يكون على عكس بنائه. ونرى من يهدمون بناء يبدأون بهدم آخر ما تم بناؤه وتركيبه، فيخلعون الزجاج أولاً وهو آخر ما تم تركيبه، ثم الأخشاب، ثم الأحجار، كذلك نقض الحياة بالموت. تخرج روح الإنسان أولاً ثم بعد ذلك ييبس ويجف ليصير صلصالاً كالفخار ثم حمأ مسنوناً أي يصيبه النتن والعفن ثم يتبخر منه الماء فيصير تراباً. ولذلك نحن نصدق الذي خلقنا في أمر خلقنا ونصدقه في أمر السمٰوات والأرض، وعندما يقول قائل بغير ذلك، نقول له كما أخبر القرآن الكريم:
{ { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].
ويخبرنا الحق هنا بقضية الرجل: { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } ولا أحد فينا يعلم أجله مهما عرض نفسه على الأطباء، والأجل الأول هو الأجل المحدد لكل منا، والأجل المسمى عنده هو زمن البرزخ ومن بعده نبعث من قبورنا، ولذلك قال سبحانه:
{ { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187].
وقد يعرف الإنسان مجيء مقدمات نهايته واقتراب موته بواسطة ما كشف الله عنه من أسراره بواسطة تقدم العلماء. فليس هذا من الغيب وفي بعض الحالات يصح هذا المريض ويشفى ويبرأ، ويقولون: قد حدثت معجزة، أما الأجل المسمى فلا نستطيع أن نعرفه، وحدد الحق سبحانه ذلك في خمس مسائل:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان: 34].
وقد تكلم الحق عن المكان ولم يتكلم عن الزمان: { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً } أي قضى أجلاً لكل واحد، ثم جعل أجلاً لكل شيء مسمى. والآجال في الآحاد تتوارد إلى أن يأتي أجل الكل وهو يوم القيامة، { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } والدلائل التي أوردها الحق كفيلة بألا تجعل أحداً يشك، ولكن هناك من يماري في ذلك بعد كل هذه المقدمات.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ وَهُوَ ٱللَّهُ ... }.