التفاسير

< >
عرض

فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٣٦
-الأعراف

خواطر محمد متولي الشعراوي

ويوضح هنا سبحانه أنه ما دام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم، وفي مقومات حياتهم، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا؛ لأنه لا فائدة منهم؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم، لا عن جبروت قدرة، بل عن عدالة تقدير؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم. ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإِغراق قد ذكر على هيئة الإِيجاز، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل، فالحق سبحانه يقول: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } [الشعراء: 52].
ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الإِغراق؛ لأن كل آية في القرآن تعالج موقفاً، وتعالج لقطة من اللقطات؛ لأن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر، وهنا يأتي موقف الإِغراق بإجمال: { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ }.
وكلمة { فَأَغْرَقْنَاهُمْ } لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضاً آخر في سورة أخرى، فحين خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون، وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا بمنطق الأحداث: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }. مدركون من فرعون وقومه لأن أمامهم البحر وليس عندهم وسيلة لركوب البحر. لكن موسى المرسل من الله علم أن الله لن يخذله؛ لأنه يريد أن يتم نعمة الهداية على يديه، كان موسى عليه السلام ممتلئاً باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه:
{ { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62].
هو يقول: "كلا" أي لن يدركوكم لا بأسبابه، بل بأسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثياتها معها وقال: { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }. لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد، وأن المسائل لا يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لأنه لم يؤد المهمة بكاملها، لذلك قال: "كلا" بملء فيه، مع أن الأسباب مقطوع بها. فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم، وأتبع ذلك بقوله: { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } بالحفظ والنصرة.. أي أن الأسباب التي سبق أن أرسلها معي الله فوق نطاق أسباب البشر، فالعصا سبق أن نصره الله بها على السحرة، وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلاً له:
{ { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ .. } [الشعراء: 63].
ونعرف أن البحر وعاء للماء، وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الاستطراق، ولو لم يكن الماء سائلاً، وبه جمود وغلظة لصار قطعاً غير متساوية، ولكن الذي يعينه على الاستطراق هو حالة السيولة، ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء.
وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلام:
{ { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ .. } [الشعراء: 63].
وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الاستطراق، ويصور الله هذا الأمر لنا تصويراً دقيقاً فيقول: { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ }. أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل، ونجد في الجبل الصلابة، وهكذا فقد الماء السيولة وصار كل فرق كالجبل الواقف، ولا يقدر على ذلك إلا الخالق، لأن السيولة والاستطراق سنة كونية، والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها. وحين سار موسى وقومه في اليابس، وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الاستطراق حتى لا يتبعه فرعون وجنوده، وهذا تفكير بشري أيضاً، ويأتي لموسى أمر من الله:
{ { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً .. } [الدخان: 24].
أي اترك البحر ساكناً على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه، إنه سبحانه لا يريد للماء أن يعود إلى السيولة والاستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم ليلحقوا بكم، فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد، وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله: { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ }. و"اليم" هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة، ويطلق مرة على المالح، ومرة على العذب، فمثلاً في قصة أم موسى، يقول الحق:
{ { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ .. } [القصص: 7].
وكان المقصود باليم هناك النيل، لكن المقصود به هنا في سورة الأعراف هو البحر. ويأتي سبب الإِغراق في قوله: { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }.
كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة، ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل ويأكل ويصح صيامه. ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لأنه غافل. لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد بـ"غافلين" هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات الله ثم أعرضوا إعراضاً لا يكون إلا عن غافل عن الله وعن منهجه، ولو أنهم كانوا عباداً مستحضرين لمنهج الله لما صح أن يغفلوا، وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه:
{ { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ .. } [الأعراف: 129].
ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه:
{ { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 129].
ويقول الحق تأكيداً لذلك:
{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ ... }.