التفاسير

< >
عرض

وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ
١٥٥
-الأعراف

خواطر محمد متولي الشعراوي

وكلمة "اختار" تدل على أن العمل الإِختياري يُرجح العقل فيه فعلاً على عدم فعل أو على فعل آخر، وإلا فلا يكون في الأمر اختيار؛ لأن "اختار" تعني طلب الخير والخيار، وكان في مكنتك أن تأخذ غيره، وهذا لا يتأتى إلا في الأمور الاختيارية التي هي مناط التكليف، مثال ذلك: اللسان خاضع لإِرادة صاحبه الاختيارية التي هي مناط التكليف، مثال ذلك: اللسان خاضع لإِرادة صاحبه فخضع للمؤمن حين قال: لا إله إلا الله، وخضع للملحد حين قال - لعنه الله -: لا وجود لله، ولم يعص اللسان في هذه، ولا في تلك. والذي رجح أمراً على أمر هو ترجيح الإِيمان عند المؤمن في أن يقول: لا إله إلا الله، وترجيح الإِلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك. والحق هنا يقول: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً }.
والذين درسوا اللغة يقولون: إن هناك حدثاً. وأنّ هناك موجداً للحدث نسميه فاعلاً مثل قولنا: "كتب زيد الدرس" أي أن زيداً هو الذي أدى الكتابة، ونسمي "الدرس" الذي وقعت عليه الكتابة مفعولاً به، ومرة يكون هناك ما نسميه "مفعولاً له" أو "مفعولاً لأجله" مثل قول الابن: قمت لوالدي إجلالاً، فالذي قام هو الابن، والإِجلال كان سبباً في إِيقاع الفعل فنسميه "مفعولاً لأجله": ونقول: "صُمْت يوم كذا" ونسميه "مفعولاً فيه"، وهو أن الفعل، وقع في هذا الزمن. فمرة يقع الحدث على شيء فيكون مفعولاً به، ومرة يقع لأجل كذا فيكون مفعولاً لأجله، ومرة يقع في يوم كذا؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولاً فيه، ومرة يكون مفعولاً معه "مثل قولنا: سرت والنيل: أي أن الإِنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه.
وهنا يقول الحق: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا .. } [الأعراف: 155].
ولأن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلاء القوم، ويسمى "مفعولاً منه"؛ لأنّه لم يخترهم كلهم، إنما اختار منهم سبعين رجلاً لميقاته مع الله سبحانه.
وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطاً، فأخذ من كل سبط عدداً من الرجال ليكون كل الأسباط ممثلين في الميقات، وكلمة "ميقات" مرت قبل ذلك حين قال الله:
{ { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ .. } [الأعراف: 143].
وهل الميقات هذا هو الميقات الأول؟ لا؛ لأن الميقات الأول كان لكلام موسى مع الله، والميقات الثاني هو للاعتذار عن عبدة العجل.
{ وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ .. } [الأعراف: 155].
ولماذا أخذتهم الرجفة؟
لأنهم لم يقاوموا الذين عبدو العجل المقاومة الملائمة، وأراد الله أن يعطي لهم لمحة من عذابه، والرجفة هي الزلزلة الشديدة التي تهز المرجوف وتخيفه وترهبه من الراجف. وحين أخذتهم الرجفة قال موسى: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ }.
أوضح موسى: لقد أحضرتهم من قومهم. وأهلوهم يعرفون أن السبعين رجلاً قد جاءوا معي، فإن أهلكتهم يا رب فقد يظن أهلهم أنني أحضرتهم ليموتوا وأسلمتهم إلى الهلاك. ولو كنت مميتهم يا رب وشاءت مشيئتك ذلك لأمتّهم من قبل هذه المسألة وأنا معهم أيضاً. ويضيف القرآن على لسان موسى والقوم معاً:
{ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } [الأعراف: 155].
أنت أرحم يا رب من أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وهذا القول يدل على أن العملية عملية فعل، والفعل هو عبادة العجل؛ فلو أن هذا هو الميقات الأول لما احتاج إلى مثل هذا القول؛ لأن قوم موسى لم يكونوا قد عبدوا العجل بعد. ولكنهم قالوا بعد الميقات الأول: ما دام موسى قد كلم الله، فلا بد لنا أن نرى الله، وقالوا فعلاً لموسى:
{ { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً .. } [النساء: 153].
إذن نجد أن ما حصل من قوم موسى بعد الميقات الأول هو قولهم: { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } وليس الفعل، أما هنا فالآية تتحدث عن الفعل: { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ }.
وهكذا نعلم أن الآية تتحدث عن ميقات ثانٍ تحدد بعد أن عبد بعضهم العجل، والفتنة هي الاختبار، والاختبار ليس مذموماً في ذاته، ولا يقال في أي امتحان إنه مذموم. إنما المذموم هو النتيجة عند من يرسب، والاختبار والامتحان غير مذموم عند من ينجح.
إذن فالفتنة هي الابتلاء والاختبار، وهذا الاختبار يواجه الإِنسان الجاهل الذي لا يعلم بما تصير إليه الأمور وتنتهي إليه ليختار الطريق ويصل إلى النتيجة. ولا يكون ذلك بالنسبة لله؛ لأنه يعلم أزلاً كل سلوك لعباده، لكن هذا العلم لا يكون حجة على العباد؛ ولا بد من الفعل من العباد ليبرز ويظهر ويكون له وجود في الواقع لتكون الحجة عليهم. والأخذ بالواقع هو الأعدل.
وقول موسى عليه السلام:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ .. } [الأعراف: 155].
هذا القول يعني: أنك يا رب قد جعلت الاختبار لأنك خلقتهم مختارين؛ فيصح أن يطيعوا ويصح أن يعصوا. والله سبحانه هو من يُضل ويهدي؛ لأنه ما دام قد جعل الإِنسان مختاراً فقد جعل فيه القدرة على الضلال، والقدرة على الهدى.
وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته، ومن يشاء إضلاله فقال:
{ { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [آل عمران: 86].
والسبب في عدم هدايتهم هو ظلمهم، وكذلك يقول الحق:
{ { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 264].
وهكذا نرى أن الكفر منهم هو الذي يمنعهم من الهداية. إذن فقد جعل الله للعبد أن يختار أو أن يختار الضلال، وما يفعله العبد ويختاره لا يفعله قهراً عن الله؛ لأنه سبحانه لو لم يخلق كلاً منا مختاراً لما استطاع الإِنسان أن يفعل غير مراد الله، ولكنه خلق الإِنسان مختاراً، وساعة ما تختار - أيها الإِنسان - الهداية أو تختار الضلال فهذا ما منحه الله لك، وسبحانه قد بيّن أن الذي يظلم، والذي يفسق هو أهل لأن يعينه الله على ضلاله، تماماً كما يعين من يختار الهداية؛ لأنه أهل أن يعينه الله على الهداية.
ويقول الحق على لسان سيدنا موسى في نهاية هذه الآية:
{ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } [الأعراف: 155].
والولي هو الذي يليك، ولا يليك إلا من قربته منك بودك له، ولم تقربِّه إلا لحيثية فيه تعجبك وتنفعك وتساعدك إذا اعتدى عليك أحد أو تأخذ من علمه لأنه عليم. إذن فالمعنى الأول لكلمة الولي أي القريب الذي قربته لأن فيه خصلة من الخصال التي قد تنفعك، أو تنصرك، أو تعلمك.
وقول موسى { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي ناصرنا، والأقرب إلينا، فإن ارتكب الإِنسان منا ذنباً فأنت أولى به، إنك وحدك القادر على أن تغفر ذنبه؛ لذلك يقول موسى: { فَٱغْفِرْ لَنَا }، ونعلم من هذا أنه يطلب درء المفسدة أولاً لأن درءها مقدم على جلب المصلحة، فقدم موسى عليه السلام طلب غفر الذنب، ثم طلب ودعا ربّه أن يرحمهم، وهذه جلب منفعة. وقد قال ربنا في مجال درء المفسدة: { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ } وهذا درء مفسدة وهو البعد عن النار: { وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ }. وهذا جلب منفعة ومصلحة.
إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، - وعلى سبيل المثال - إنك ترى تفاحة على الشجرة، وتريد أن تمد يدك لتأخذها، ثم التفت فوجدت شاباً يريد أن يقذفك بطوبة، فماذا تصنع؟ انت في مثل هذه الحالة الانفعالية تدفع الطوبة أولاً ثم تأخذ التفاحة من بعد ذلك. وهذا هو درء المفسدة المقدم على جلب المصلحة، وهنا درء المفسدة متمثل في قول موسى: { فَٱغْفِرْ لَنَا } ثم قال بعد ذلك: { وَٱرْحَمْنَا } وهذا جلب مصلحة، والقرآن يقول:
{ { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ .. } [الإسراء: 82].
لأن الداء يقع أولاً، وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء، والرحمة ألاَّ يجيء لك داء بالمرة. فإذا أخذت القرآن لك نصيراً فلن يأتي لك الداء أبداً. { فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } [الأعراف: 155].
ومثلها مثل قول الحق سبحانه: { خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }، و{ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }، و{ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } و{ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } هنا؛ لأن المغفرة قد تكون من الإِنسان للإِنسان، ولكنا نعرف أن مغفرة الرب فوق مغفرة الخلق؛ لأن الغافر من البشر قد يغفر رياء، وقد يغفر سمعة، قد يغفر لأنه خاف بطش المقابل. لكنه سبحانه لا يخاف من أحد، وهو خير الغافرين من غير مقابل.
ويقول الحق بعد ذلك:
{ وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ... }.