التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٥٠
-الأنفال

خواطر محمد متولي الشعراوي

والذي يُوجه إليه هذا الخطاب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعناه لو كشفنا لك الغيب لترى، وتلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ترك الجواب، فلم يقل ماذا يحدث لهذا الكافر والملائكة يضربونه، وإذا ما حذف الجواب فإنك تترك لخيال كل إنسان أن يتصور ما حدث في أبشع صورة، ولو أن الحق سبحانه وتعالى جاء بجوابه لحدد لنا ما يحدث، ولكن ترك الجواب جعل كلاً منا يتخيل أمراً عجيباً لا يخطر على البال، ويكون هذا تفظيعاً لما سوف يحدث.
والصورة هنا تنتقل بنا من عذاب الدنيا للكفار إلى ساعة الموت.
و{ يَتَوَفَّى } أي لحظة أن تقبض الملائكة أرواح الكافرين، والتوفي وهو قبض الأرواح يجيء مرة منسوباً لله سبحانه وتعالى مصداقاً لقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم } ومرة يأتي منسوباً لرسل من الله: { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ومرة يأتي منسوباً إلى ملك الموت وهو عزرائيل: { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ }.
وبذلك يكون التوفي قد أسند مرة إلى الله عز وجل ومرة إلى عزرائيل ومرة إلى رسل الموت، ونقول: لا تعارض في هذه الأقوال؛ لأن الأمر في كل الأحوال يصدر من الله سبحانه وتعالى، إما أن يقوم عزرائيل بتنفيذه وإما جنوده وهم كثيرون.
الأمر الأصيل - إذن - من الله، وينسب إلى المتلقي المباشر من الله وهو عزرائيل، ويُنسب إلى من يطلب منهم ملك الموت أن يقوموا بهذه العمليات.
وهذا العذاب يحدث ساعة الاحتضار وهو اللحظة التي لا يكذب الإنسان فيها على نفسه؛ لأن الإنسان قد يكذب على نفسه في الدنيا، وقد يكون مريضاً بمرض لا شفاء منه فيقول: سأشفى غداً، ويعطي لنفسه الأمل في الحياة، وقد يكون فقيراً لا يملك من وسائل الدنيا شيئاً ويقول: سوف أغتني؛ لأن الإنسان دائماً يغلب عليه الأمل إلا ساعة الاحتضار، فهذه لحظة يوقن فيها كل ميت أنه ميت فعلاً ولا مفَّر له من لقاء الله، ولذلك تجد أن الذي ظلم إنساناً لحظة يموت يقول لأولاده: أحضروا فلاناً لقد ظلمته فردوا له حقوقه نحوي وما ظلمته فيه، والإنسان لحظة الاحتضار يرى كل شريط عمله. فإن كان مؤمناً رأى شريطاً منيراً؛ فيبتسم ويستقبل الموت وهو مطمئن. وإن كانت أعماله سيئة فهو يرى ظلاماً، ويتملكه الذعر والخوف لأنه عرف مصيره.
وحينما زين الشيطان للكفار أن يقاتلوا المؤمنين ووعدهم بالنصر، وقال: إنني أجيركم إذا دارت عليكم الدائرة، فلما أصبح المؤمنون والكفار على مدى الرؤية من بعضهم البعض هرب الشيطان؛ لأنه رأى من بأس الله ما لم يره الكفار، وهذا هو موقف الشيطان دائماً، إذا رأى بأس الله أسرع بالفرار، ويعترف أن كل حديثه لابن آدم إنما هو وعد كاذب سببه الحقد الذي في قلبه؛ لأنه تلقى العقاب من الله عز وجل بعد أن رفض تنفيذ أمر الله له بالسجود لآدم، وهو الذي أوجب عليه العذاب الذي سيلاقيه. ونرى الشيطان مثلاً كما يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بقوله:
{ { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82].
أي أنه أقسم بجلال الله وعزته. ومعنى عزة الله أنه غني عن خلقه جميعاً لا يحتاج لأحد منهم، فهو الله بجلال وجمال صفاته قبل أن يوجد أحد من خلقه قد خلق هذا الكون وأوجده ولم يستعن بأحد، ولو آمن به الناس جميعاً ما زاد ذلك في ملكه شيئاً. ولو كفر به الناس جميعاً ما نقص ذلك من ملكه شيئاً. وقسم إبليس بعزة الله إقرار منه بها. وقد أقسم بعزة الله أن يطلب الغواية للإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما دام لا يزيد ملكه ولا ينقص بإيمان خلقه؛ لذلك أعطاهم حرية الاختيار، ولو أراد الله الناس مؤمنين ما استطاع إبليس أن يقترب من أحد منهم، ويحاول إبليس بحقده على الإنسان وكرهه له أن يصرفه عن طريق الإيمان، ولكن هل يملك إبليس قوة إغواء على مؤمن؟. لا، ولذلك فهناك استثناء:
{ { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83].
أي أن إبليس لا يستطيع أن يقترب من عبد مؤمن مخلص في إيمانه. ولذلك لا بد أن نلتفت إلى قول الشيطان الذي جاء على لسانه في الآية الكريمة:
{ { إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [الأنفال: 48].
إذن فما دام إبليس يخاف الله، وما دام يعلم أن الله شديد العقاب فما الذي أذهب عنه هذا الخوف حين أمره الله بالسجود لآدم فعصى؟. خصوصاً وهو يعلم أن الله شديد العقاب، ولو كان قد عرف أن الله لا يعاقب أو يعاقب عقاباً خفيفاً لقلنا أغرته بساطة العقاب بالمعصية. ولكن علمه بشدة العقاب كان يجب أن يدفعه إلى الطاعة من باب أولى.
ونقول: إنه في ساعة الكبر نسي إبليس كل شيء!!
فأنت في حين يأخذك الكبر تتعالى ولو في مواقع الشدة، حتى وإن علمت أنه قد يصيبك عقاب شديد، ولكن يختفي كل هذا من نفسك إذا دخل فيها الكبر.
ولذلك قد تجد إنساناً يُعذب بضرب شديد ولكن الكبر في نفسه يجعله لا يصيح ولا يصرخ. ونجد إنساناً قد يتخذ في لحظة كبر قراراً له عواقب وخيمة ولكنه يتحمله. وإبليس ساعة رفضه تنفيذ أمر السجود كان يمتلىء بالكبر والغرور، فتكبر على أمر الله وملكه الغرور فقال:
{ { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [الإسراء: 61].
إذن ففي لحظة الكبر نسي إبليس كل شيء، واندفع في معصيته يملؤه الزهو وأصر على المعصية رغم علمه أن الله شديد العقاب.
وفي قوله تعالى:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الأنفال: 50].
نجد أنه قد حذف جواب "لو" والمعنى لو كشف الحجاب لترى الملائكة وهم يتوفون الذين كفروا لرأيت أمراً عظيماً فظيعاً، وهل يحدث هذا ساعة القتال عندما يُقتل الكفار في المعركة وتستقبلهم الملائكة بالضرب، أم يحدث هذا الأمر لحظة الوفاة الطبيعية؟. كلاهما صحيح والعذاب هذا أخذ صفة الإقبال ومحاولة الهرب، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ .. } [الأنفال: 50].
فالمقبل منهم يضربونه على وجهه، فإذا أدار، وجهه ليتقي الضرب، يضربونه على ظهره، وكان الكفار يعذبون المؤمنين بهذه الطريقة؛ فالمقبل عليهم من المؤمنين يضربونه على وجهه، فإذا حاول الفرار ضربوه على ظهره وعلى رأسه.
ويذيق الله الكافرين ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين. ولكن الفارق أن الضارب من الكفار كان يضرب بقوته البشرية المحدودة. أما الضارب من الملائكة فيضرب بقوة الملائكة. ويقال: إن الملائكة معهم مقامع من حديد. أي قطع حديد ضخمة يضربون بها وجوه الكفار وأدبارهم. ومن شدة الضربة واحتكاك الحديد بالجسم تخرج منه شرارة من نار لتحرق أجساد الكفار.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الأنفال: 50].
إذن فهم يضربون الكفار ساعة الاحتضار ضرباً مؤلماً جداً هذا الضرب رغم قسوته، والشرر الذي يخرج منه لا ينجيهم في الآخرة من عذاب الحريق.
ولذلك
"أقبل صحابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله.. لقد رأيت في ظهر أبي جهل مثل شراك النعل. أي علامة من الضرب الشديد ظاهرة على جسده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك ضرب الملائكة، وجاء صحابي آخر وقال: يا رسول الله.. لقد هممت بأن أقتل فلاناً فتوجهت إليه بسيفي، وقبل أن يصل سيفي إلى رقبته رأيت رأسه قد طار من فوق جسده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك إليه الملك" . وذلك مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: { { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12].
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ .. } [الأنفال: 50].
أي أن الضرب فيه إهانة أكثر من العذاب، ولو أن العذاب قد يكون أكثر إيلاماً. فقد يقوم مجرم بارتكاب جريمة ما فإذا أُخِذَ وعُذب ربما تحمل العذاب بجلد، ولكنَّه إذا ضُرب أمام الناس كان ذلك أشدَ إهانة له، فإذا كان الضرب من الذي وقعت عليه الجريمة كانت الإهانة أكبر.
ولكن هذا الضرب والعذاب لا ينجيهم من عذاب النار، بل يدخلون إلى أشد العذاب يوم القيامة، وهذه نتيجة منطقية لما يفعله الكفار من عدم الإيمان بالله، ومن قيامهم بإيذاء المؤمنين به والإفساد في الأرض.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ... }.