التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
-التوبة

خواطر محمد متولي الشعراوي

و{ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } مكونة من ثلاث كلمات هي: همزة استفهام، "لم" حرف نفي، و"يعلم" وهو فعل. فهل يريد الله هنا أن ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها "همزة الاستفهام الإنكاري" والإنكار نفي، فإذا دخل نفي على نفي فهو إثبات، أي "فليعلموا".
ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر؟ نقول: إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا، وبدلاً من أن يكون الأمر إخباراً من الله، يكون إقراراً من السامع.
{ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ } لماذا جاء الحق بكلمة { هُوَ }، وكان يستطيع سبحانه أن يقول: "ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة" ولن يختل الأسلوب؟
أقول: لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول: فلان يستطيع أن يفعل لك كذا. وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل، لكن حين تقول: فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا. فهذا يعني أنه لا يوجد غيره. وهذا هو ضمير الفصل الذي يعني الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة.
لذلك قال الحق: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ... } [التوبة: 104].
وهل كانت هناك مظنة أن أحداً غير الله يقبل التوبة؟ لا. بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله، ولا نتوب إلى رسول الله. ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها؛ وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال:
{ { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 70-77].
ولم يقل سيدنا إبراهيم: "إنهم أعداء"، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ }.
و{ إِنَّهُمْ } - كما نعلم - جماعة، ثم يقول بعدها { عَدُوٌّ } وهو مفرد، فجمعهم سيدنا إبراهيم وكأنهم شيءٌ واحد. وكان بعضٌ من قوم إبراهيم يعبدون إلهاً منفرداً، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام ويقولون: إنهم شركاء للإله. إذن: كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين.
ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء، فقول إبراهيم قد يُفسر على أن الله داخل في العداوة؛ لذلك استثنى سيدنا إبراهيمُ وقال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ }، أي: أن الله سبحانه ليس عَدُوّا لإبراهيم عليه السلام، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام. أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله، أي: لا يعبدون الله، لم يكن إبراهيم ليستثنى.
والاستثناء هنا دليل على أن بعضاً من قومه هم الذين قالوا:
{ { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ ... } [الزمر: 3].
وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } وهذا كلام دقيق محسوب. وأضاف:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78].
ولم يقل: "الذي خلقني يهديني"، بل ترك "خلقني" بدون "هو" وخَصَّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال: { فَهُوَ يَهْدِينِ }؛ لأن "هو" لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكاً له، أما مسألة الخلق فلا أحدٌ يدّعي أنه خلق أحداً. فالخلق لا يُدَّعى، ولذلك لم يقل "الذي هو خلقني".
والحق سبحانه هو القائل:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ... } [الزخرف: 87].
فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن: فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصَّص بـ "هو" تأكيداً على تخصيصه لله وحده { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة؛ لأن أحداً لم يدّع أنه خلق أحداً، فمجيء الاختصاص - إذن - كان في مجال الهداية بمنهج الحق، لا بقوانين من الخلق. فمن الممكن أن يقول بشر: أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته، ونقول: لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه.
إذن: فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه (هو)، أما ما يمكن أن يُدَّعَى فتأتي فيه (هو). وقوله سبحانه:
{ { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [الشعراء: 79].
وجاء هنا أيضاً بضمير الفصل؛ لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله؛ لذلك جاء بـ { هُوَ }، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى مالم يأت به الأب؛ لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي إلى ما ليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم:
{ { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 79-80].
وخصص الشفاء أيضاً؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي، أما الطبيب فهو معالج فقط؛ ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنساناً لطبيب، فيموت بين يدي الطبيب؛ ولذلك يقول الشاعر عن الموت:

إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ أوْ لم يَنَمْ فالطِّبُّ مِن أذنَابِه

فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه. ثم يقول سيدنا إبراهيم: { { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ... } [الشعراء: 81].
ولم يقل: "هو" يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: "هو يميتني"، ونقول: انتبه إلى أن إلا الموت غير القتل، فالموت يتم بدون نقض للبنية، والقتل لا يحدث إلا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم:
{ { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 81].
وأيضاً لم يقل: "هو يحييني"؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء بـ "هو" في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان:
{ { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [الشعراء: 82].
لم يأت أيضاً بـ "هو"؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله.
إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون "هو"، وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء بـ "هو".
وهنا يقول الحق: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة "من" عباده، ولكنه ترك "من" وجاء بـ "عن". والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي "من" بدلاً من "عن". ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محدداً: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ } أي: متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة.
وهكذا جاءت "عن" بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
ثم يقول سبحانه: { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: { خُذْ } ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و "يأخذ" هنا معناها "يتقبل" واقرأ قول الحق:
{ { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ... } [الذاريات: 15-16].
أي: متلقين ما آتاهم الله. ومثال هذا ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئاً من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد؛ فتصدأ الفضة؛ لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم. فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها: ما هذا؟ قالت: إنه درهم. واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم؟ فقالت: كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة.
فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
{ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }. كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قُبلَتْ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخُذ الصدقات هو الله؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك: { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ ... }.