التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

خواطر محمد متولي الشعراوي

الإيمان: هو إيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وقمة الإيمان شهادة أن "لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". وكانت هناك حساسية عند أهل قريش من مسألة الرسول هذه، وأنه محمد بن عبد الله، وبعضهم قد قال: القرآن جميل ورائع فلماذا جاء على لسان محمد؟ وكان اعتراض كفار قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
إذن فالمشكلة عندهم لم تكن في القرآن ذاته، بل كانت في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرد الحق سبحانه وتعالى بقوله:
{ { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الزخرف: 32].
أي أن رحمة الله تعالى خاصة به، لا يقسمها إلا هو بمشيئته، يقسمها كيف يشاء كما قسم بينهم معيشتهم وأعطاهم الرزق المادي، وإذا كان المولى سبحانه قد قسم رزقهم في الأدنى، فكيف يريدون هم أن يتصرفوا في الأعلى؟ لقد قالوا ما جاء في القرآن على ألسنتهم:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32].
وكان المنطق الصواب أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ولكنهم بغبائهم طلبوا الموت بدلاً من الهداية. فقد كانت عصبيتهم - إذن - ضد شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان على من يعلن إيمانه بالله منهم أن يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله.
والحق تبارك وتعالى يقول:
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ .. } [التوبة: 18].
وهذا القول يحمل في مضمونه إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول بعدها: { وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ } وإقامه الصلاة لا تصح منهم إلا إذا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي قال لنا إنها خمس، وهو الذي علَّمنا كيف نؤديها وماذا نقول فيها، وهو الذي نشهد له ونحن نصلي؛ في الإقامة وفي التشهد، إذن فساعة نقيم الصلاة لا بد أن نكون مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى ذلك فقوله تعالى: { وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ } يقتضي ضرورة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. واشترط سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الإيمان به وباليوم الآخر وإقام الصلاة وفي طيها الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إيتاء الزكاة، وطلب منا ألا نخشى غيره، والخشية هي الخوف. وسبحانه وتعالى قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } [الأنفال: 58].
إذن فهناك خوف من أشياء أخرى، ونقول: إن الحق حين قال: { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي لم يخش في دينه إلا الله، لكن لا مانع من الخشية التي تجعلك تعد لعدوك وتحذر عدوانه عليك. وانظر إلى دقة القرآن الكريم وعظمته، فقد جمع في آية واحدة بين الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والزكاة، ولم يأت فيها ذكر الإيمان بالرسول؛ لأنه مسألة مطوية في أركان الإيمان. ومن يفعل ذلك يدخل في زمرة من وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله:
{ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 18].
ولقائل أن يقول: كيف بعد أن آمنوا بكل هذا نقول: عسى؟.. إذن فما حكم الذي لم يؤمن؟
ونقول: إن "عسى" و"لعل" أفعال رجاء، وذكرها يعني الرجاء في أن يتحقق ما يأتي بعدها، ومراتب الرجاء بالنسبة للنفس وبالنسبة للغير بالنسبة لله تختلف، أنت تقول مثلاً: اسأل فلاناً لعله يعطيك، هذه مرتبة من الرجاء، وتقول: لعلِّي أعطيك، وهذه أقرب إلى التحقيق من أن أرجو غيري أن يعطيك.
إذن فهي مرحلة أعلى في الإجابة، وأن تقول: لعل الله يعطيك مرحلة ثالثة وعالية من الرجاء؛ لأنك ترجو الله ولا ترجو أحداً من البشر. والله سبحانه وتعالى كريم يعطي بسخاء. ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى عن نفسه: لعلي أعطيك، فيكون هذا توقعاً مؤكداً للعطاء.
إذن فمراحل الرجاء؛ رجاء لغيرك من غيرك، ورجاء منك لغيرك، ورجاء من الله لسواك، وقول من الله بالرجاء. فإذا قال الله سبحانه وتعالى:
{ { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ .. } [لإسراء: 8].
نقول: إنه الرجاء المحقق؛ لأنه سبحانه وتعالى كريم يحب أن يرحمنا ولا شيء يمنعه من أن يحقق ذلك. إذن فيكون الرجاء قد تحقق. وقوله تعالى:
{ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 18].
والهداية إما أن تكون هداية إلى سبيل يؤدي لغاية، أي يهدينا الله للمنهج، فإن عملنا به نصل إلى الجنة، لأن المنهج هو الطريق للجنة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار:
{ { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ .. } [النساء: 168-169].
إذن فالهداية مرة تكون للمنهج فنؤمن به ونعمل به، وإما لطريق يوصل إلى غاية. والذين ذكرهم الله في هذه الآية الكريمة هم كل:
{ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ .. } [التوبة: 18].
وما داموا قد فعلوا ذلك؛ فهذا هو تطبيق المنهج، وبذلك فَهُمْ - إن شاء الله - لا بد أن تكون نهايتهم الجنة.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ... }.