التفاسير

< >
عرض

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
٥٤
-التوبة

خواطر محمد متولي الشعراوي

إذن: فالفسق نوعان: فسق عام، وفسق خاص. وقد يقول البعض: إنك إن ارتكبت معصية فصلاتك وزكاتك وكل عباداتك لا تنفعك.
ونقول: لا فما دامت القمة سليمة؛ إيماناً بالله وإيماناً بالرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقاً بالمنهج، فلكل عمل عبادي ثوابه، ولكل ذنب عقابه؛ لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان. فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها.
وقوله الحق هنا { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ }، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر، لا في خصوص الفسق، وحدد الحق ثلاثة أشياء منعت التقبل منهم: الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى، ثم الإنفاق بكراهية.
ونفعهم المنع على أنه رَدُّ الفعل إلى ما ينقض العمل أو ينافيه؛ كأن يريد إنسان القيام فتُقعده، أي أنك رددت إرادة القيام إلى القعود، وهو ما ينافيه، أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده، فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدى عليه. إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول. فأنت حين تمنع زيداً من الضرب تكون قد منعت الفاعل، وحين تمنع عنه الضرب تكون قد منعت المفعول، وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع، الذي يوجزه الفعل ورد الفعل، تجد ذلك في الإنسان وفي الزمان وفي المكان.
وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك. وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضاً.
وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه. فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصاً آخر وأمسكتَ يده، وقلت له: سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفاً من رد الفعل. والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل؛ القوي يواجه قوياً، والكل خائف من رَدِّ فعل اعتدائه على الآخر. ولكن إذا واجه قوي ضعيفاً، تجد القوي يفتك بالضعيف.
وهكذا العالم كله، فالكون إما ساكن وإما متحرك. وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفاً من رد الفعل. وكذلك تجد العالم الساكن؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء لا يأتي من جهة واحدة، ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازناً على كل أجناب العمارة، ولكن لو فرَّغْتَ الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة، تماماً كما تُفزِّغُ الهواء من إناء مغلق فيتحطم.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
{ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة، لا، فقد شهد المنافقون قولاً، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان؛ فالإيمان محله القلب، والمنافقون جمعوا بين لسان يشهد وقلب ينكر، فأعطاهم الرسول حق شهادة اللسان، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين، وكل ذلك احتراماً لكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي نطقوا بها؛ ولأن باطنهم قبيح، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم، ويعاقبهم، فلا يأخذون ثواباً على ما يفعلونه ظاهراً وينكرونه باطناً. وهكذا كان التعامل معهم منطقياً ومناسباً. فما داموا قد أعطوا ظاهراً، فقد أعطاهم الله حقوقاً ظاهرة؛ ولأنهم لم يعطوا باطناً طيباً، فلم يُعْطِهم الله غيباً من ثوابه وغيباً من جنته وعاقبهم بناره.
ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى: { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلٰوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ } والكسل: هو التراخي في أداء المهمة. إذن فهم يصلون رياءً، فإن كانوا مع المؤمنين ونُودي للصلاة قاموا متثاقلين. وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة. إذن فسلوكهم مليء بالازدواج والتناقض.
والسبب الثالث: { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك؛ سواء أكان ذلك مالاً أم علماً أم جاهاً أم قوة، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع؛ لأن كل مجتمع به أعراض كثيرة، تجد القوي والضعيف، الغني والفقير، العالم والجاهل، الصحيح والمريض. ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى والعاجزون والفقراء. ولكن لابد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته، وليس على قدر حاجته، ولابد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول، فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك، ثم تفيء على غيرك بفضل الله عليك، خصوصاً على هؤلاء الذين لا يقدرون على الحركة في الحياة، فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة. والغني يعطي الفقير من ماله ما يعينه على الحياة. والقادر على الحركة يعطي من لا يقدر عليها، هذا هو المجتمع المتكافل.
ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع؛ لأن الغني اليوم قد يكون فقيراً غداً، والقوي اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار. وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل، فلا ينشغل الفقير خوفاً من الأحداث المتغيرة، وإن مات فلن يجوع عياله، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج.
إذن: فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة، وهي التي يتم فيها بيع كل السلع وشراؤها. فمن أراد أن يبيع باع، ومن أراد أن يشتري اشترى، إذن فالحركة فيها متكافئة. وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري، فإما أن تأخذ مالاً نقدياً مقابل ما بِعْتَ، وإما أن تدفع مالاً ثمناً لما اشتريت. وقديماً كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى. وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن، ومن ينفق ماله ويقدمه عند الله، فالحق سبحانه يأتي له بكل خير.
وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا، والعذاب الواقع أمام الكل في الآخرة، وبيَّن لهم أن إنفاقهم طَوْعاً أو كَرْهاً لن يأتي لهم بالخير.
ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد. ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه. وقد يقول إنسان: إن الله قد قال:
{ { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا.. } [الكهف: 46].
ونقول لمن يقول ذلك: أكمل الآية:
{ { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف: 46].
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ.. } [التغابن: 15].
والله يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين، وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ .. }.