التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ
٩٩
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٠
وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
-البقرة

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ } الفِسْقُ إذا اسْتُعمِل في نوع من المعاصي دَلَّ على أعظمه { أَ } كفروا بآياتنا { وَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ } طَرَحَهُ مَنْسِيّاً { فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } رَدٌّ لِتَوَهُّم أن الفريق هم الأقلون { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ } التوراة { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } أي: أعرضوا بجَحْدِهِم ما فيها من صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ما فيها { وَٱتَّبَعُواْ } عطف على "نبذ" { مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } حكاية عن الماضي { عَلَىٰ مُلْكِ } عَهْدِ { سُلَيْمَـٰنَ } أي: كتاب سِحْرٍ كتَبهُ الشياطينُ ودفَنُهُ تحت كُرْسَيَّه واستخرجوه بعد موته، وقالوا: هو مَلَكَ بهذا السحر لا بنبوته، فتعلموه ونفوا نُبوَّتهُ { وَمَا كَفَرَ } ما { سُلَيْمَـٰنُ } عبر عنه بالكفر لغلظه { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } بما دفنوه وقالوه.
* تنبيه:
السحر: إتيان نفس شريرة بخارق عن مزاولة محرم، فإذا اقترن بكُفْرٍ فكُفْرٌ، وإلا فكبيرة عند الشافعي وَكُفرٌ عند غَيْره، وتعلمه إذا لم يكن ................... لِذَبِّ السحرة عند فُشُوِّه حَرَامٌ عند الأكثرين.
وعِنْدَ الإمام أنواعه ثمانية:
الأَول: سحر الكلدانيين عبدة الكواكب.
الثاني: سحر ذوي الأفْهامِ والنفوس القوية.
الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية.
الرابع التخيلات والأخذ بالعيون.
الخامس أعمال عجيبة ظاهرة من تركيب آلات مركبة كَفَارِسٍ في يده بُوق كل ساعة يضر به بلا مس أحد.
السادس: الاستعانة بخَواصِّ الأدوية.
السابع: تعليق القلب، كأن هدده بأني أفعل بك كذا وكذا بالاسم الأعظم، فإذا سمعه تعلق قلبه به فتضعف قوته الحساسة فيتمكن من أن يفعل به ما يريد.
الثامن: السعي بالنميمة نحوه.
والمعتزلة أنكروا كُلَّ ذَلِكَ إلا التخييلى والنميمة، والتحقيق أن الأعمال العجيبة مِمَّا يُعْمَلُ بالآلات والأدوية كأعمال أصحاب الحيل وأصحاب خفة اليد غير مذموم، وتسميته سحراً تَجَوّزاً، وقَدْ بَانَ لك بهذا وبالتعريف خُرُوْج كثير من الأقسام التي ذكرها الإمام، ومنها: الشعوذة وهي إضهار عمل شيء تشتغل به أذهان الناظرين وأعينهم بعمل شيء آخر على سبيل السرعة ليخفى الأمر على الناظر.
ثم أعلم أن المعجزة خرق عادة من نفس خيرة داعية إلى الخير مقروناً بالتحدي على وقفه تتعذر معارضته، فخرج بخير الداعية إلى الخير خوارق المسألة والساحر، وبالقتران الكرامة والإرهاص وبالوفاق خارقٌ يَشْهَدُ على خلاف دعواه، كمن يقول: علامة نبوتي: نطق هذا الحائط، فنطق بأنه كذاب وبتعذر المعارضة ما يعمل بخواص الأشياء.
ثُمَّ كَرَامَةُ الوليّ، وهو المقبل على الله بكلِّ حالٍ: هي خَرْقُ عادة من ملتزم لمتابعة نبيه بلَا دَعْوى النبوة، فخرج بالالتزام الاستدراج، مؤكد تكذيب الكذاب كمرض من دَعَا بعافيته ويُسَمَّى إهانة، وكذا ما وقع تخليصاً للمؤمنين ويسمى: معونة والله أعلم.
{ وَ } يعلمونهم { مَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } أي: أُلْهِمَا به من السحر ومعرفة فساده، { بِبَابِلَ }: موضع بالكوفة، { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ }: بيان للملكين، وهُمِا كَانَا من أعبد الملائكة، رَكَّبَ الله تَعالى فِيْهما الشَّهْوة بعدما طعن الملائكة فينا ليظهر عذرنا فعصيا فخيرهما بين عذاب الدارين، فاخْتَارا عَذَابَ الدنيا، فَعَذّضبَهُما إلى يوم القيامة، ويمتحن بهما عباده، ونزوله عليهما لا ينافي حُرْمَتهُ؛ لأنَّهُما يعلمانه ليجتنبوه، كما لو سُئِلْتَ: ما الزنا؟ لوجب بيانه لِيُعْرفَ فيجتنب عنه، { وَمَا يُعَلِّمَانِ }: الملكان { مِنْ أَحَدٍ }، أحداً { حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ }، اختبار لكم { فَلاَ تَكْفُرْ }: بتعلمه، كأنه كان في هذا النوع من السحر كفر، { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا }: أي: سحراً، { يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }: خَصَّه بالذِّكْر؛ لأنّهُ أَقْبحُ أنواعه، { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ }: بالسحر { مِنْ أَحَدٍ }، أحدا، { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بأمره، { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }: لأنهم يتعلمونه للعمل، { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } السحر بدين الله باختياره عليه، { مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ } نصيب خير، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ } باعوا، { بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } نَزَّلَ عِلْمَهُم منزلة جهلهم لعدم علمهم به، أو المثبت الغَريْزيّ، والمنفي المكتسب.