التفاسير

< >
عرض

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٦
وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٧
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
٢٨
فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ
٢٩
هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٣٠
-يونس

النهر الماد

{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } أي أحسنوا في كل ما تعبدوا به، أي أتوا بالمأمور كما ينبغي واجتنبوا المنهي عنه والحسنى هي الجنة. وزيادة هي النظر إلى الله تعالى في الجنة، ولا يلحقها خزي. والخزي يتغير به الوجه ويسود فكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرور والحزن فيه.
{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } والذين مبتدأ.
و{ جَزَآءُ } مبتدأ ثان، وخبره:
{ بِمِثْلِهَا } وقيل: الباء زائدة. والضمير العائد على المبتدأ محذوف تقديره جزاء سيئة منهم بمثلها. وقيل: خبر والذين قوله:
{ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } والجملتان قبله اعتراض بين المبتدأ وخبره.
{ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } هذه مبالغة في سواد الوجوه وقد جاء مصرحاً به في قوله:
{ { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106]. وأغشيت: كسيت، ومنه الغشاء. وكون وجوههم مسودة هو حقيقة لا مجاز فتكون ألوانهم مسودة. وقرىء: قطعاً بسكون الطاء، ومظلماً صفة له: وقرىء: بفتح الطاء فيكون مظلماً حالاً من الليل. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو اما أن يكون اغشيت من قِبَل أنّ من الليل صفة لقوله: قطعاً فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإِفضائه إلى الصفة، وأما أن يكون معنى الفعل في من الليل. "انتهى". أما الوجه الأول فهو بعيد لأن الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل هو مستقر الواصل إليه بمن وأغشيت عامل في قوله: قطعاً، الموصوف بقوله: من الليل، فاختلفا. فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي قطعاً مستقرة أو كائنة من الليل في حال إظلامه. قال ابن عطية: وإذا كان نعتاً يعني مظلماً نعتاً لقطعاً فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا وتقدير الجملة قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله: { { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ } [الأنعام: 92، 155]. "انتهى". لا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فتكون جملة بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير قطعاً كائناً من الليل مظلماً.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الآية، الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم من الفريقين وانتصب يوم على فعل محذوف، أي ذكرهم أو خوّفهم. ونحوُه وجميعاً: حال. والشركاء: هم من عُبد من دون الله كائناً من كان. ومكانكم: عده النحويون في أسماء الأفعال وقدر باثبتوا كما قال:

وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي

أي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي وتحملت ضميراً فأكد. وعطف عليه في قوله: أنتم وشركاؤكم. قال الزمخشري: وأنتم أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا وشركاؤكم عطف عليه. "انتهى". يعني عطفاً على الضمير المستكن، وتقديره الزموا. وان مكانكم قام مقامه فتحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانكم الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا، ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً وإذا كان متعدياً مثال ذلك بنا عليك زيداً، لما ناب مناب الزم تعدى، وإليك لما ناب مناب تنح لم يتعد، ولكون مكانك لا يتعدى قدّره النحويون اثبتوا، واثبتوا لا يتعدى. قال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه، فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام. الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ولتقدير إضمار لا ضرورة تدعو إليه. ولقوله: فزيلنا بينهم إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤهم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق، ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه، تقول: كل رجل وضيعته، بالرفع ولا يجوز فيه النصب. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه، وهذا ليس بجيد إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول، فيلزم تأخيره عنه وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أنه لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تريد أضرب أنت زيداً، إنما كلام العرب زيداً، تريد اضرب زيداً فزيّلنا يقال: زلت الشىء عن مكانه أزيله، معيّن الكلمة ياء. وزعم ابن قتيبة وتبعه أبو البقاء ان قوله: زيّلنا من مادة زال يزول فتكون عين الكلمة واو، وزيلنا وزنه عندهما فيعل اجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء. والصحيح أنه من ذوات الياء وان وزنه فعّل ولذلك قالوا في مصدره تزييلاً على وزن تفعيل، وقالوا في الاشتقاق منه زايلنا بالياء. ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا نعبد. وإياكم: مفعول بتعبدون، وحسن تقديمه كون تعبدون فصلاً ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى، وانتصب شهيداً على التمييز لقبوله صحة من، وانْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين انْ النافية وبين ان التي للإِثبات. وتقدم الكلام على مثل ذلك في قوله: { { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [البقرة: 143].
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ } هنالك ظرف مكان، أي في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. تبلوا، أي تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، مقبول أو مردود. وقرىء: تبلو. وقرىء: تتلو.
{ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي إلى جزائه.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي ذهب وبطل.
{ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب.