التفاسير

< >
عرض

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

النهر الماد

{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ } الآية، لما استعبراه ووصفاه بالإِحسان افترض ذلك فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الاخبار بالغيب وأنه ينبئهما بما يجعل لهما من الطعام قبل أن يأتيهما ويصفه لهما وقيل كان ذلك في اليقظة وقيل كان في النوم فقالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فقال لهما:
{ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ } وجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإِيمان ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى وروي أنه نبىء في السجن والظاهر أن قوله:
{ إِنِّي تَرَكْتُ } استئناف إخبار بما هو عليه إذ كانا قد أحباه وكلفا به وبحسن أخلاقه ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه وفي الحديث:
"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" وعبر بتركت مع أنه لم ينشأ بتلك الملة قط إجراء للترك مجرى التجنب من أول حاله واستجلاباً لهما لأن يترك تلك الملة التي كانا فيها والذين لا يؤمنون هم أهل مصر ونبه على أصلين عظيمين الإِيمان بالله والإِيمان بدار الجزاء وكرر لفظه هم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل قال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة وان غيرهم مؤمنون بها ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي يرتكبها إلا كافر بدار الجزاء "انتهى".
ليست عندنا هم تدل على الخصوص وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة.
{ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ } لما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي بما ذكره من اخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله:
{ مَا كَانَ لَنَآ } ما صح وما استقام لنا معشر الأنبياء.
{ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } عموم في الملك والجني والأنسي فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر فشىء يراد به المشرك ويجوز أن يراد به المصدر أي شىء من الإِشراك فيعم الإِشراك ويلزم عموم متعلقاته ومن زائدة لأنها في حيز النفي إذا المعنى ما نشرك بالله شيئاً والإِشارة بذلك إلى شرعهم وملتهم.
{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفئتين من عبادة الأصنام فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتمحض فيه النصيحة واحتمل قوله: يا صاحبي السجن ان يكون من باب الاضافة إلى الظرف والمعنى يا صاحبي السجن واحتمل أن يكون من باب إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل يا ساكني السجن كقوله تعالى:
{ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الحشر: 20] ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها فإِذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ثم كذلك حتى يصل إلى الإِذعان بالحق وقابل نفرق آبائهم بالوحدانية وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة وإعلاماً بعرف أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد والمعنى أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله تعالى فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادة الله تعالى ثم استطرد بعد هذا الاستفهام إلى الاخبار عن حقيقة ما تعبدون والخطاب بقوله:
{ مَا تَعْبُدُونَ } لهما ولقومهما من أهل مصر ومعنى:
{ إِلاَّ أَسْمَآءً } الا ألفاظاً أحدثتموها.
{ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } فهي فارغة لا مسميات تحتها وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في الاعراف.
{ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال:
{ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ومعنى القيم الثابت الذي دلت عليه البراهين.
{ لاَ يَعْلَمُونَ } لجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.
{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } الآية لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهم ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب فروي أنهما قالا: ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك فأخبرهما يوسف صلى الله عليه وسلم عن غيب علمه من قبل الله أن الأمر قد مضى ووافق القدرة وسواء كان ذلك منكما حلماً أم تحالماً وأفرد الأمر وان كان أمر هذا غير أمر هذا لأن المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن وهو اتهام الملك إياهما بسمه فرأيا ما رأيا أو تحالما بذلك.
{ وَقَالَ } أي يوسف.
{ لِلَّذِي ظَنَّ } أي أيقن هو أي يوسف.
{ أَنَّهُ نَاجٍ } هو الساقي والذي يظهر أن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما قال لساقي الملك.
{ ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه والضمير في فأنساه عائد على الساقي ومعنى ذكر ربه أي ذكر يوسف لربه والإِضافة تكون بأدنى ملابسة وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن.
و{ بِضْعَ سِنِينَ } مجمل فقيل سبع وقيل اثنا عشر والظاهر أن قوله: فلبث في السجن اخبار عن مدة مقامه في السجن منذ سجن إلى أن خرج.