التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
-البقرة

النهر الماد

{ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } لكن روعي العموم من حيث المعنى، إذ المعنى: كتب على كل واحد منكم، ثم أظهر ذلك المضمر إذا كان يكون إذا حضره الموت فقيل إذا حضر أحدكم.
{ إِن تَرَكَ خَيْراً } أي مالاً. والظاهر مطلق المال أن الوصية تكون واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الاثنين. وقال به قوم وعن ابن عباس وغيره أنه تقرر الحكم بهذا بُرهة ثم نسخ منها كل من يرث بآية الفرائض. وجواب كل من الشرطين إذا وإن محذوف تقديره فليوص، ودل عليه سياق المعنى. والمقدر للأول بالمعروف أي بالذي حده الشارع من كونه لا يزيد على الثلث ولا يوصي لغني دون فقير. وقال ابن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كتب هو العامل في إذا، والمعنى توجه إيجاب الله عليكم، ومقتضى كتابة إذا حضر فعبر عن توجه الإِيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية: مفعول ما لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله: كتب عليكم، كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه.
وفيه تناقض لأنه قال العامل في إذا كتب، وإذا كان العامل فيها كتب، تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً. ثم قال: وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها اما الجواب واما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا. ولا يجوز تأويل ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم. وهذا الاعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب. وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء على تقدير الفاء، والخبر إما محذوف أي فعليه الوصية، وإما منطوق به وهو قوله:
{ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } أي فالوصية للوالدين وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم والمفعول الذي لم يسم فاعله بكتب مضمر أي الايصا يفسره ما بعده. قال أبو محمد ابن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الايصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إذا وترتفع الوصية بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه:

من يفعل الصالحات الله يحفظه

، ويكون رفعها بالابتداء بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين. "انتهى".
كلامه وفيه أن إذا معمولة للإِيصاء المقدر. ثم قال: ان الوصية فيه جواب الشرطين وقد تقدم ما يناقض ذلك، لأن إذا من حيث انها معمولة للإيصال لا تكون شرطاً ومن حيث ان الوصية فيه جواب إذا تكون شرطاً متناقضاً لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً غير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإِيصاء المقدر عاملاً في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في إذا لفظة الايصاء فحذف أو ضمير الايصاء لا جائزان تقدره لفظة الايصاء ولا جائز لأن المفعول الذي لم يسم فاعله لا يجوز حذفه وابن عطية قدر لفظ الايصاء أن يقدره ضمير الايصاء لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز اعمال لفظ مضمر المصدر فمنويُّه أحرى أن لا يعمل. وأما قوله: وفيه جواب الشرطين فليس بصحيح فانا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حدته، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين. وأما قوله على نحو ما أنشد سيبويه، وذكر البيت فهو تخريف عليه.
وإنما أنشد سيبويه:

* من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان *

وأما قوله بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين. فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه فإِن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه. قال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله: أن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلا أن يضطر الشاعر من قبل أن كريم يكون كلا ما مبتدأ والفاء وإذا لا يكونان إلا معلّقين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقاله الشاعر عن مضطر وأنشد البيت السابق: من يفعل الحسنات. وذكر عن الأخفش أن ذلك على إضمار الفاء وهو محجوج بنقل سيبويه إن ذلك لا يكون إلا في الاضطرار وأجاز بعضهم أن يقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو عليكم وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فتقول لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت ان ترك خيراً تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو فتكون الوصية مبتدأ أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، وتكون جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة أو المكتوب الوصية للوالدين والأقربين. ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة، زيد المضروب أو المضروب زيد. فيكون هذا جواباً لسؤال مقدر. كأنه قيل: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الايصاء أو ضمير الايصاء ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره كتب على أحدكم. ثم أبرزه في قوله: إذا حضر أحدكم، دلالة على المحذوف، والمعنى: كتب على أحدكم إذا حضره الموت فتكون الوصية مكتوبة على ذلك الأحد لا على الذين آمنوا. ويجوز أن يكون ثم معطوف محذوف تقديره إذا حضر أحدكم الموت وترك خيراً ووصى، وتكون الوصية معمولة الكتب على حذف مضاف تقديره كتب عليكم إنفاذ الوصية.
{ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } فيه وفي كتب دلالة على الوجوب وانتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة قاله الزمخشري وابن عطية وكون على متعلقاً به أو في موضع الصفة يخرجه عن التوكيد والأولى عندي أن يكون مصدراً على غير الصدر لأن معنى كتب وجب وحق.