التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
٢٨٣
للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

النهر الماد

{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ } الآية مفهوم الشرط يقتضي أخذ الرهن في السفر وعدم الكاتب أقام تعالى التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة. وقرىء فرهان جمع رهن ورهن بضمتين كسقف وسقف وبسكون الهاء والفاء جواب الشرط أي فالمستوثق به رهن، وثم محذوف أي وإن كنتم على سفر وتبايعتم أو تداينتم. وفي قوله: مقبوضة، اشتراط القبض ولا يدل على أنه يتولى القبض بل لو قبض بنفسه أو بوكيله ويكون متقوماً يصح بيعه وشراؤه ويتهيأ فيه القبض ولو بالتخلية فيما التخلية قبض مثله.
{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } أي إن وثق رب الدين بأمانة الغريم فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن.
{ فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } الضمير في أمانته عائد على الذين أؤتمن، والأمانة مصدر أطلق على الشيء الذي في اليد أو بقي على مصدريته على حذف مضاف أي دين أمانته. والأمر في فليؤد للوجوب. وقرىء أؤتمن بهمزة ساكنة وبإِبدالها ياء كهمزة يد للكسرة قبلها. وقرىء الذي تمن بإِدغام التاء المبدلة من الياء في تاء افتعل وهي لغة رديئة.
قال الزمخشري: وليس بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة واتزر عامي وكذلك ريا من رؤيا. "انتهى". وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وان اتزر عامي يعني أنه من إحداث العامة لا أصل له في اللغة، وقد قدمنا أن ذلك لغة رديئة. وأما قوله: وكذلك ريا من رؤيا فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله واتزر عامي فيكون إدغام ريا عامّياً وإما أن يعود إلى قوله: فليس بصحيح، أي وكذلك إدغام ريا ليس بصحيح. وقد حكى الادغام في ريا الكسائي.
{ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } أي في أداء ما أئتمنه رب المال وجمع بين الذات والوصف.
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ } هذا نهي تحريم.
{ وَمَن يَكْتُمْهَا } الآية الكتم من معاصي القلب والشهادة علم بالقلب فلذلك علق الإِثم به وعنه يترجم اللسان وقلبه فاعل باثم. (وقال) ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني آثم ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إنّ "انتهى". وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان، وأقائم الزيدون، وما قائم الزيدان، وما قائم الزيدون. لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن إذ يجيز قائم الزيدان فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام (قال) ابن عطية: ويجوز أن يكون قلبه بدلاً على بدل البعض من الكل يعني أنه يكون بدلاً من الضمير المرفوع المستكن في آثم، والإِعراب الأول هو الوجه. وجوز الزمخشري أن يكون آثم خبراً مقدماً وقلبه مبتدأ والجملة في موضع خبر إنّ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون. وقرىء قلبُه بالنصب ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة بدلاً من اسم انّ. قال ابن عطية: قال مكي: هو على التفسير يغني التمييز ثم ضعّفه من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة وقد خرّجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه. ومثله ما أنشد الكسائي:

من نعاتها مدارة الاخفاف محمراتهاغلب الدفاريّ وعفريناتِها
كوم الذرى وأدقه سراتها

وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام. ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم انّ وقد تقدم ويكون بدل بعض من كل ولا مبالاة بالفضل بين البدل والمبدل منه بالخبر لأن ذلك جائز فقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف نحو: زيد منطلق العاقل نص عليه سيبويه مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد فأحرى في البدل لأن الأصح ان العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه. وقرىء أثّم فعلاً ماضياً وقلبه نصباً على المفعولية.
{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ } الآية ناسب ختم هذه السورة بهذا لأنها اشتملت على تكاليف كثيرة، فذكر تعالى إن له ملك السماوات والأرض فهو يكلف من يشاء بما شاء، ولما كانت التكاليف محل اعتقادها الأنفس قال:
{ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } فصفة الملك تقتضي القدرة الباهرة والمحاسبة تقتضي العلم المحيط بالأشياء جليلها وحقيرها وكني بالمحاسبة عن الجزاء.
{ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } بدأ بأثر الرحمة وهي المغفرة. وقرىء فيغفر برفع الراء على القطع، أي فهو يغفر وبالجزم عطف على يحاسبكم وبالنصب على إضمار أن فينسبك من ذلك مصدر مرفوعٍ معطوف على مصدر متوهم أي تكن محاسبة فغفران. وقرىء بغير فاء مجزوماً وخرّج على البدل من يحاسبكم. وفيه نظر. وقال الزمخشري: ومعنى هذا البدل التفضيل لجملة الحساب لأن التفصيل أوضح من المفصل فهو جار مجري بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال كقولك: ضربت زيداً رأسه، وأحب زيداً عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. "انتهى".
وفيه بعض مناقشة اما أولاً فلقوله ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب، إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها بحيث لا يشذ شيء منها. والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة فليست المحاسبة تفصّل إلى الغفران والعذاب، وأما ثانياً فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل وبدل الإِشتمال وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الإِشتمال فهو يمكن وقد جاء لان الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي، فلا يقال في الفعل له كل وبعض، إلا بمجاز بعيد فليس كالإِسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض. قال الزمخشري: وقد ذكر قراءة الجزم فإِن قلت كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشاً ورواية عن أبي عمر ومخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. "انتهى". وذلك على عادته في الطعن على القراء وأما ما ذكره من أن مدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشاً إلى آخره، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ولا في النون. قال أبو سعيد: ولا نعلم أحداً خالفه إلا يعقوب الحضرميّ وإلا ما روي عن أبي عمر وانه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركاً ما قبلها نحو: يغفر لمن يشاء العمر لكيلا واستغفر لهم الرسول، فإِن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر نحو الأنهار لهم والنار ليجزي فإِن انفتحت وسكن ما قبلها حرف مد ولين أو غيره ولم يدغم نحو من مصر لامرأته والأبرار لفي ولن تبور ليوفيهم والحمير لتركبوها فإِن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه وعن اليزيدي عنه أنه أظهرها وذلك إذا قرأ بإِظهار المثلين والمتقاربين المتحركين لا غير على أن المعمول في مذهبه في الوجهين جميعاً على الإِدغام نحو: ويغفر لكم. "انتهى".
وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعاً ووافقهما على سماعه رواية وأجازه أبو جعفر الرواسي وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين وقد وافقتهم أبو عمر وعلى الإِدغام رواية وإجازة كما ذكرناه وذلك من رواية الوليد بن حسان وللإِدغام وجه من القياس ذكرناه في كتاب "التكميل لشرح التسهيل" من تأليفنا وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الادغام الذي منعه البصريون بكون ذلك إخفاء لا إدغاماً وهذا لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا. وما فرقوا بين الإِخفاء والإِدغام وعقد هذا الرجل باباً قال فيه: هذا باب يذكر فيه ما أدغمته القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه وهذا لا ينبغي فإِن لسان العرب. ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه دون غيرهم بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة، وقد اتفق على نقل إدغام الراء من اللام كبير البصريين ورأسهم أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي وكبراء أهل الكوفة الرواسي والكسائي والفراء وأجازوه ورووه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه الى علمهم ونقلهم؛ إذ من علم حجة على من لم يعلم. (وأما) قول الزمخشري: ان راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين فقد تبين أن ذلك صواب والذي روى ذلك عنه الرواة ومنهم أبو محمد اليزيدي وهو إمام النحو إمام في القرآت إمام في اللغة.