التفاسير

< >
عرض

إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٦٠
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٦١
أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦٢
هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٦٣
لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
١٦٤
-آل عمران

النهر الماد

{ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } هذا التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ولما أمره تعالى بمشاورتهم وبالتوكل عليه أوضح أنّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع إلى ما يشاء، وإنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم، فما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أحد بمشيئته سبحانه وتعالى، ثم أمرهم بالتوكل وناط الأمر بالمؤمنين فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإِيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان، والتوكل على الله من فروض الإِيمان ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والحزامة بغاية الجهد ومعاطاة أسباب التحرز وليس الإِلقاء باليد والإِهمال لما تجب مراعاته بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيّدها وتوكل. والضمير في من بعده عائد على الله تعالى أما على حذف مضاف أي من بعد خذلانه وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف؛ بل يكون المعنى إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك.
وجاء جواب أن ينصركم الله بصريح النفي العام وجواب أن يخذلكم بمتضمن النفي وهو الاستفهام وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر؛ وإن كان المعنى على نفي الناصر لكن الفرق بين الصريح والمتضمّن فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذين نص عليهم أنه لا ناصر لهم كقوله تعالى:
{ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد: 13].
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } قال ابن عباس: فقد قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض: من كان مع النبي لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت. وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجاً. وقيل: منافق. والغلول: أخذ المال من الغنيمة في خفاء. وقرىء أن يغل مبنياً للفاعل ويكون على حذف مضاف تقديره وما كان لتابع نبي أن يغل. وقرىء أن يغل مبنياً للمفعول من غل أو من أغل.
{ يَأْتِ بِمَا غَلَّ } ظاهره أنه يأتي بعين الشيء الذي غله كما جاء في ظاهر الحديث أنه إن كان بعيراً جاء له رغاء أو بقرة لها خواراً أو شاة بَيْعر، وقيل يأتي حاملاً أثم ما غل.
{ أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } هذه استعادة بديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً فنكص عن اتباعه ورجع مصحوباً بما يخالف الاتباع وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه.
{ هُمْ دَرَجَٰتٌ } الضمير في هم عائد على من اتبع على المعنى لأنه المحدث عنه. والتقدير وهم ذو درجات، والدرجة: ما يتوصل به إلى مكان علو وأكثر ما يستعمل في الشيء الذي يتوصل منه إلى العلو الحسيّ ولذلك جاء
{ { نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ } [الأنفال: 83، يوسف: 76]. وقوله { { أَعْظَمُ دَرَجَةً } [التوبة: 20، الحديد: 10]؛ وعند الله لا يكاد يكون هذا إلا عند التشريف لقوله: { { فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ } [النور: 13]، ولما ذكر مآل من باء بسخط من الله ذكر مآل من اتبع رضوان الله. ويبعد قول من قال إن لفظ هم عائد على من اتبع ومن باء، وإن الدرجات مشتركة بينهما ويبعد أن يقال: إن للكافر درجة عند الله. وقرىء درجة بالتوحيد.
{ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ } الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه فصّل في هذه الآية وما بعدها. وقوله: على المؤمنين، لم يكونوا حالة البعث مؤمنين فاحتمل أن يسموا مؤمنين باعتبار ما آل أمرهم إليه من الإِيمان، أو سماهم مؤمنين بالنسبة إلى علمه تعالى. وإذ ظرف العامل فيه منّ. والمنة هنا: الانعام.
{ رَسُولاً } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } قالوا: أي من جنس بني آدم لأن تلقي الوحي منه إليهم يسهل، ولم يكن من الملائكة لتفاوت بين الجنسين وصعوبة التلقي منهم ولأن إعجاز القرآن إنما يظهر عند بني آدم حجة عليهم. والأظهر أنه أراد بقوله: من أنفسهم، من العرب، كما قال:
{ { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [الجمعة: 2]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: { { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 129]. ولذلك قال عليه السلام: أنا دعوة أبي إبراهيم. وشرف العرب تم بظهوره عليه السلام وليس في العرب قبيلة إلا وله فيها نسب من جهة الأمهات الأنصاري بني تغلب. وقرىء شاذاً لمن منَّ الله بمن الجارة، ومنّ: مجرور بها بدل قد منّ. (قال) الزمخشري: وفيه وجهان أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ فيهم فحذف لقيام الدلالة أو يكون إذ في محل الرفع كإِذا في قولك أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً بمعنى لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه. "انتهى". أما الوجه الأول فهو سائغ وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها { { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } [النساء: 159] { { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } [الصافات: 164] { { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [الجن: 11] على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة البتة إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ومفعوله ما ذكر على قول أما ان تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل، وأنت تريد وقت قيامه زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين مبتدأين. انتهى كلامه. وأما قوله: في محل الرفع كإِذا فهذا التشبيه فاسد لأن المشبه مرفوع بالابتداء والمشبه به ليس مبتدأ إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك وليس في الحقيقة في موضع رفع بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذاك العامل مرفوع. فإِذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً فهذا في غاية الفساد لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب لا يجيز أن ينطق به إنما هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإِعراب أخطب مبتدأ، ان هذه الحال سدت مسد الخبر وانه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده وفي تقدير هذا الخبر أربعة مذاهب ذكرت في مبسوطات النحو. وقرىء من أنفسهم بفتح الفاء من النفاسة. وعن عليّ كرم الله وجهه عنه عليه السلام: انا أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ولا في آبائي مذ آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله.
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي من قبل بعثه. { لَفِي ضَلالٍ } جعل الضلال ظرفاً لهم وهم فيه لأن العرب لم يكونوا أهل كتاب إنما عباد أصنام مشركون، وتقدم الكلام على أن وهذه اللام في قوله:
{ { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [البقرة: 143].
وقال الزمخشري: إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وتقديره وإنّ الشأن والحديث "انتهى". وقال مكي: قال سيبويه: إن مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا، فظهر من كلام الزمخشري انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث، ومن كلام مكي انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه.