التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٧٠
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
١٧٤
-آل عمران

النهر الماد

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ } بالتاء خطاب للسامع وبالياء أي ولا يحسبن وهو أي حاسب.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً ويكون التقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإِن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء، والمعنى هم أحياء الدلالة الكلام عليها. "انتهى" كلامه. أما تقديره فلا يحسبنهم الذين قتلوا ففيه تفسير الضمير بالفاعل الظاهر وهو لا يجوز فلا تقول حسبه زيد منطلقاً تريد حسب نفسه ولا ضربه زيد تريد ضرب نفسه زيد، وقد ذكرنا في البحر المواضع التي يفسر الضمير الاسم المتأخر أو الجملة اتفاقاً واختلافاً وليس منها الضمير الاذي يفسره الظاهر الفاعل وأما تجويزه حذف المفعول الأول في باب حسب. فقال الفارسي: حذفه اختصاراً عزيز جداً. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز حذفه البتة وما كان هكذا فلا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى وأما من حيث المعنى فيبعد ما قاله جداً لأن من كان حياً عند ربه مرزوقاً فرحاً مستبشراً لا ينهي أن يحسب نفسه ميتة فيجب أن تحمل قراءة الياء على أن الحاسب مضمر كما قررناه لتتفق القراءتان في كون الذين مفعولاً وإن اختلفتا من جهة الخطاب والغيبة. وإحياء بالرفع على تقدير بل هم احياء. وقرىء احياء بالنصب على تقدير بل تحسبهم احياء والظاهر ان فرحين حال من الضمير في يرزقون.
{ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } هم الشهداء الذين يأتوا بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله. وجعل ابن عطية استبشر بمعنى الفعل المجرد لأنه يقال بشر كما قالوا استمجد المرغ والعفار بمعنى مجد، والأحسن أن يكون استبشر مطاوع أبشر كقولهم أكأنه فاستكان ومطاوعه استفعل لأفعل كثير لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره فحصلت له البشرى بإِبشار الله له بذلك وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية بلا وان وما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين فيكون هو المستبشر به في الحقيقة أو منصوب على أنه مفعول من أجله فيكون علة الاستبشار والمستبشر به غيره التقدير لأنه لا خوف عليهم والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب، والظاهر أن قوله: يستبشرون، استئناف إخبار. وليس بتوكيد للأول لاختلاف متعلق الفعلين الأول بانتفاء الخوف والحزن عن الذين لم يلحقوا بهم، والثاني قوله: بنعمة من الله وفضل، وذهب الزمخشري وابن عطية إلى أنه توكيد للأول. قال الزمخشري: وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من ذكر النعمة والفضل وان ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل الله وحكمته ان يحصل لهم ولا يضيع. "انتهى". وهو على طريقة الاعتزال في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال: أكد استبشارهم بقوله: { يَسْتَبْشِرُونَ } ثم بين بقوله: وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد. وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر انها على قدر الأعمال "انتهى". وقرىء وإن بكسر الهمزة وفتحها.
{ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ } الاستجابة كانت اثر الانصراف من أحد استنفر الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب الكفار فاستجاب له تسعون. وقيل: لما كان اليوم الثاني من أحد وهو يوم الأحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين. وقال: لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام.
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } الظاهر أن القائل هم ناس وليس واحداً، كما قال بعضهم: إنه نعيم بن مسعود الأشجعي. وقيل: الناس ركب من عبد القيس مروا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين فأخبروا بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد: حسبنا الله ونعم الوكيل، والناس الثاني: قريش.
{ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة وحذر العدوّ إياهم. { وَفَضْلٍ } وهو الربح في التجارة كقوله:
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 198] هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ولم يذكر غيره وهو قول مجاهد.
قال ابن عطية: والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة يريدون في السلامة والظهور وفي اتباع العدو وحماية الحوزة وبفضل في الأجر الذي حازوه والفخر الذي تخللوه وانها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد. والجملة من قوله: لم يمسسهم في موضع الحال، وبنعمة في موضع الحال.