التفاسير

< >
عرض

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ
٤١
-آل عمران

النهر الماد

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } القبول مصدر بفتح القاف وهو مصدر قبل جعل تقبّل بمعنى قبل كعجب وتعجب والباء الظاهر انها زائدة أي فقبلها قبولاً حسناً وقيل الباء ليست بزائدة فالقبول اسم لما يقبل به الشيء. كالسعوط.
{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خَلق وخُلق وإنشائها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار وقيل لم تجر عليها خطيئة. وانتصب نباتاً على أنه مصدر على غير المصدر أو مصدر لفعل محذوف أي فنبتت نباتاً حسناً.
وقرىء { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي ضمها إليه حالة التربية. وقرىء وكفّلها زكريا أي كفلها الله تعالى. ويقال كفل. يكفل كعلم ويعلم وكفل يكفل كقتل يقتل لغتان. وقرىء فتقبلْها وأنبتها وكفّلها على الأمر وربّها على النصب نداء منها فتكون الجمل إذ ذاك من كلام أم مريم دعت ربها بهذه الدعوات. وقرىء زكريا بالمد والقصر ويأتي الكلام في سبب تكفيل زكريا مريم. قال ابن اسحاق: كان زكريا تزوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين فولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم وزكريا نبي معصوم وهو ابن داود بن مسلم وهو من ولد سليمان عليه السلام. قال ابن إسحاق: ضمها إلى خالتها أمّ يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بني لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه ألا بسُلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره.
{ كُلَّمَا } تدل على التكرار وتقدم الكلام عليها في البقرة والعامل فيها فعل ماض وقد جاء مضارعاً قليلاً في قول الشاعر:

علاه بسيف كلما هز يقطع

أي قطع وقيل هنا كلام محذوف تقديره فلما صلحت للعبادة احتجبت عن أهلها في مكان بعيد منفردة للعبادة وكان زكريا يأتيها وتبناها إذ كان هو كافلها. والرزق هنا قيل: هو فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ولم يعيّن في القرآن، ولا صح تعيينه في ألسنة ولما استغرب زكريا ذلك.
{ قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أي من أين لك هذا فأجابته بقوله: { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أي هو مسبب الأشياء وموجدها. وجوابها لسؤاله ظاهره أنه لم يأت به آدمي البتة بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.
{ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ } ظاهره أنه من كلام مريم عليها السلام. { هُنَالِكَ } إسم إشارة للمكان البعيد. قيل: وقد يستعمل للزمان، ولما كان المحراب مكان عبادة وكرامة لمريم.
{ دَعَا زَكَرِيَّا } فيه بأن يهب الله له ذرية طيبة ولما كان دعاؤه على سبيل ما لا تسبّب فيه لكبر سنه وعقر امرأته وكان وجوده كالوجود من غير سبب أي هبة مخصّة منسوبة إلى الله تعالى، بقوله: { مِن لَّدُنْكَ } أي من جهتك بمحض قدرتك من غير توسط سبب. وختم بقوله: { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أي مجيبه. كما ختمت أمُ مريم دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. وطيب الذرية كونها صالحة خالصة لعبادة الله كما جاءت مريم كذلك.
{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } ظاهره أنها باشرته بالنداء ليلقى سمعه إلى ما تكلمه الملائكة وتخبره عن تبشير الله له بالهبة وانه تعالى قبل دعاءه في ذلك. { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية نادته حالة التباسه بهذه العبادة العظيمة وهي الصلاة في المكان الشريف المخصوص بالعبادة. { بِيَحْيَـىٰ } أي بولادة يحيى منك ويحيى علم. والظاهر أنه أعجمي لأنه ليس من لسانهم وقرىء فناداه وفنادته. وقرىء ان الله يكسر الهمزة على تقدير قول محذوف في مذهب أهل البصرة وفي إجراء النداء مجرى القول في مذهب الكوفيين وبفتحها على تقدير الباء أي بأن الله. وقرىء يبشرك مخفف الشين، ويبشرك مضارع بشر بتشديد الشين ويبشرك مضارع أبشر بالهمزة. { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ } هي عيسى عليه السلام وأطلق عليه كلمة لأنه ناشىء عن لفظ كن المستعار لسرعة التكوين. وقرىء بكلمة بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن. { وَسَيِّداً } السيد المطاع الفائق أقرانه والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. وترتبت هذه الأوصاف لحسن ترتيب بدأ فذكر التصديق أولاً وهو الإِيمان ثم السيادة وهو كونه فاق الناس في الخصال الحميدة ثم الحصر من النساء اللاتي هن ملاذ الرجال، ثم النبوة التي هي أشرف الأوصاف. وتقدم الكلام في الصلاح ما هو في البقرة في قوله:
{ { لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [البقرة: 130]. وصفات يحيى هذه مقابلة لصفات مريم اشتركا في التصديق وفي السيادة إذ كان سيد بني إسرائيل وكانت سيدة نساء العالمين وكان لا يأتي النساء وكانت عذراء. وقد قيل: انها كانت نبيّة لقوله تعالى: { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [مريم: 17].
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } تقدم أن الملائكة بشرته بيحيى فسأل عن كيفية ذلك أيكون ذلك مع كوننا في سن من لا يولد له لكبر عمره أم ذلك على رجوعنا إلى الشبيبة، فأخبره تعالى أنه يولد لهما على علوّ سنهما من الكبر حتى قيل أن عمره كان مائة سنة وعشرين سنة وعمرها ثمانية وتسعين سنة. وقال الزمخشري: استبعاد من حيث العادة. كما قالت مريم. "انتهى". وعلى ما قاله لو كان استبعاداً لما سأله بقوله: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكناً لا سيما الأنبياء لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع. { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } جملتان حاليتان صدرت الأولى بالفعل الماضي، والثانية اسمية، لأن بلوغ الكبر مما يتجدد والعقر لا يتجدد وبلوغه تأثيره فيه وهو على سبيل المجاز. وفي سورة مريم وقد بلغت من الكبر عتيا.
{ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } أي مثل ذلك الفعل، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً عن الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء بل سبب إيجاده هو تعلق الإِرادة سواء أكان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة فتكون الكاف في موضع نصب والعامل يفعل. وقيل: كذلك الله مبتدأ وخبر فتكون في موضع رفع وعلى حذف مضاف أي كذلك صنع الله أو فعله ويفعل ما يشاء جملة مفسّرة للإِبهام الذي في اسم الإِشارة.
{ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } سؤال عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له.
{ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.
{ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } الظاهر أنه سأل آية تدل على أنه يولد له فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً وانتفاء الكلام قد يكون لتكليف به أو بملزومه في شريعتهم وهو الصوم أو لمنع قهري مدة معينة لآفة تعرض في الجارحة أو لغير آفة قالوا مع قدرته على الكلام بذكر الله سبحانه وتعالى. (قال) الزمخشري: ولذلك قال: واذكر ربك إلى آخره، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة. "انتهى". ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس فيه وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق والكلام وانتصب ثلاثة أيام على الظرف لا على المفعول به خلافاً للكوفيين لانتفاء الفعل في جميعها ودخل في الأيام الليالي ألا ترى إلى قوله ثلاث ليال سوياً.
{ إِلاَّ رَمْزاً } ظاهره أنه استثناء منقطع، وقيل: متصل. والرمز الإِشارة بالشفتين أو العين أو الحاجب أو اليد. وقرىء رمزاً بضمتين وهو مصدر جاء على فعل. وقرىء رمزاً بفتحتين وهو مصدر كقولهم: غلب غلباً. { وَٱذْكُر رَّبَّكَ } الظاهر أنه باللسان. { وَسَبِّحْ } مفعوله محذوف. أي وسبحه والظاهر أنه أريد { بِٱلْعَشِيِّ } آخر النهار. { وَٱلإِبْكَارِ } أوله، إذ العشي: وقت ارتفاع الأعمال، والإِبكار: وقت ابتدائها. وقرىء والإِبكار بفتح الهمزة جمع بكر. تقول: آتيك بكراً أي بكرة.