التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
١٤٤
إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
١٤٥
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
١٤٦
مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
١٤٧
لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً
١٤٨
إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
١٤٩
-النساء

النهر الماد

قوله تعالى: { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ } عام يشمل المنافقين كبني قريظة إذ كان بينهم وبين الأنصار حلف ورضاع ويشمل الكافرين من غيرهم.
وقوله: { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يعني المهاجرين، ويكون: يا أيها الذين آمنوا، خطاب للأنصار وغيرهم من المؤمنين.
{ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي بموالاة الكفار.
{ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } قال ابن عباس: هي لأهل النار كالدرج لأهل الجنة إلا أن الدرجات بعضها فوق بعض والدركات بعضها أسفل من بعض. وقال: أبو عبيدة: الدركات الطبقات، وأصلها من الإِدراك أي هي متداركة متلاحقة. وقرىء في الدرك بسكون الراء.
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ } استثناء من المنافقين.
{ تَابُواْ } من النفاق.
{ وَأَصْلَحُواْ } أعمالهم وتمسكوا بالله وكتابه.
{ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } أي لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله. ولما كان المنافق متصفاً بنقائض هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والإِعتزاز بهم والمراءة للمؤمنين شرط في توبتهم ما يناقص تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصل ما أجمل فيها وهو الإِصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لمولاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإِخلاص للدين لله تعالى وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ولا من المؤمنين، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين تنفيراً لما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتفظيعاً لحال من كان متلبساً به. ومع المؤمنين أي رفقاؤهم ومصاحبوهم.
{ وَسَوْفَ يُؤْتِ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } أتى بسوف لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة وهو زمان مستقبل ليس قريباً من الزمان الحاضر، وقد قالوا: ان سوف أبلغ في التنفيس من السين، ولم يعد الضمير عليهم. فيقال: وسوف يؤتيهم بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم يشاركونهم فيه ويساهمونهم.
{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } ما الاستفهامية في موضع نصب بيفعل تقديره أي شيء يفعل ومعناه النفي أي ما يعذبكم. وأجيز أن تكون ما نافية. والباء في بعذابكم زائدة.
{ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } قدم الشكر على الإِيمان لأن العاقل ينظر ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً فإِذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الإِيمان فكأنه أصل التكليف ومداره.
{ شَاكِراً } أي مثبتاً موفياً أجوركم. وأتى في صفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل وينميه.
{ عَلِيماً } بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله: عليماً، تحذير وندب إلى الإِخلاص لله عز وجل.
{ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ } الآية، مناسبها لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر وبيّن ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين، سوغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه السلام: اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس.
{ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } هذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي الأجهر من ظلم. وقيل: الاستثناء منقطع فالتقدير لكن المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامته. وقيل: من فاعل بالمصدر وهو الجهر تقديره لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا من ظلم أي إلا المظلوم فإِنه تعالى لا يكره جهره بالسوء، وفيه أعمال المصدر معرفاً بالألف واللام وهي مسألة خلاف، ومذهب سيبويه جواز ذلك. قال ابن عطية: وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر. "انتهى".
يعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد. وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح، وذلك لأن الاستثناء المنقطع على قسمين: قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، فهذا فيه البدل في لغة تميم والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز وإنما جاز فيه البدل لأنك لو قلت: ما في الدار إلا حمار، صح المعنى. وقسم، يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل وهو ما لا يمكن توجه العامل عليه نحو: المال ما زاد إلا النقص، التقدير لكن النقص حصل له، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص لأنك لو قلت: ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى. والآية، من هذا القسم لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فتفرغ أن يجهر لأن يعمل في الظالم لم يصح المعنى.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من مرفوعاً كأنه قيل: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه: قل لا يعلم من في السماوات والأرض العتيب إلا الله. "انتهى".
وهذا الذي جوزه الزمخشري لا يجوز لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغواً زائداً ولا يمكن أن يكون الظالم بدلاً من الله ولا عمرو بدلاً من زيد لأن البدل في هذا الباب راجع إلى كونه بدل بعض من كل، اما على سبيل الحقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، وأما على سبيل المجاز نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز لأن الله عليم وكذا زيد هو زيد فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم فيكون الظالم بدلاً من الله، وعمرو بدلاً من زيد. وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإِنه يتخيل فيما قبله عموم ولذلك صح البدل منه على طريق المجاز وإن لم يكن بعضاً من المستثنى منه حقيقة. وأما قول الزمخشري: على لغة من يقول: ما جاء في زيد الا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو فلا نعلم هذه اللغة إلا أن في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتاً من الاستثناء المنقطع آخرها قوله الشاعر:

عشية لا تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المُصَمِّم

ما نصه. وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، لأنها معارف ليست الأسماء الأخيرة بها ولا منها. وانتهى كلام سيبويه ولم يصرح ولا لوّح أن قوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، من كلام العرب. وقال: من شرح كلامه فهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو أن ينبغي ان يثبت هذا من كلامهم لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أن زيد ليس بعمرو، وكما ان اخوة زيد ليسوا اخوانك. "انتهى".
وليس ما أتاني زيد إلا عمرو ونظير البيت لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز كأنه قال: لا يغني السلاح مكانها إلى المشرفيّ، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو، فإِنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويل حتى يصح البدل فكان بقدر: ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. وكان بدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء اما أن يكون على إلغاء الفاعل وزيادته أو على كون عمرو بدلاً من زيد فإِنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري: ومنه قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فليس من باب ما ذكر لأنه يحتمل أن تكون من مفعوله والغيب بدلاً من مَن بدل اشتمال أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله أي ما يسرونه وما يخفونه لا يعلمه إلا الله وإن سلمنا أن من مرفوعة فيجوز أن يكون الله بدلاً من مَن على سبيل المجاز في من لأن في السماوات يتخيل فيه عموم كأنه قيل: قل لا يعلم الموجودون الغيب إلا الله، أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى إذ جاء ذلك عنه في القرآن في السنة كقوله تعالى:
{ { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 3]. { { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } [الزخرف: 84]. وفي الحديث: أين الله قالت في السماء. ومن كلام العرب: لا وذو في السماء بيته، يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر.
{ أَوْ تُخْفُوهُ } الظاهر أن الهاء في تخفوه تعود على الخبر. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة.