التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٣٦
يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٧
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

النهر الماد

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه فإِن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين والوسيلة القربة أمر المؤمنين بأوصاف خالف فيها المحارب إذ لم يتق الله تعالى ولا ابتغى قربة إليه، وجعل الحرابة عوض الجهاد في سبيل الله فاستحق بذلك العقاب العظيم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ورتب هنا رجاء الفلاح على الاتصاف بهذه الأوصاف التي في هذه الآية من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية لما ذكر حال المؤمن ورجاء الفلاح له ذكر حال الكافر وما يقول إليه. وخبر إن هو لو، وجوابها ومثله معطوف على ما من قوله: ما في الأرض، أي الذي في الأرض، وجواب لو جاء منفياً وهو قوله: ما تقبل منهم، وجاء على الفصيح من ترك اللام إذ يجوز في الكلام لو جاء زيد لما جاء عمرو، فتدخل اللام على ما النافية. وقال به فأفرد الضمير وإن كان تقدمه شيآن ما الموصولة ومثله لتلازمهما، كما قالت العرب: رب يوم وليلة مربّي، تريد مر أبي فأفرد الضمير لتلازم اليوم والليلة. (قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله معه بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه، فإِن قلت: فيم ينتصب المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه لو من الفعل لأن التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض جميعاً. "انتهى". إنما توحّد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال وعود الضمير متأخراً حكمه متقدماً تقول الماء والخشبة استوا كما تقول الماء استوى والخشبة. وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء والخشبة استويا ومنع ذلك ابن كيسان، وقول الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله بمعنى مع ليس بشيء لأنه يصير التقدير مع مثله معه أي مع مثل ما في الأرض إن جعلت الضمير في معه عائداً على ما فيكون معه حالاً من مثله، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة فلا فائدة في ذكر معه لملازمة معية كل منهما للآخر. وإن جعلت الضمير عائداً على مثله أي مع مثله مع ذلك المثل فيكون المعنى مع مثلين فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عن إذا الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثله. وقول الزمخشري: فإِن قلت: إلى آخر الجواب هذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أن أنْ إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاء عليه فيكون التقدير على هذا لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليقتدوا به فيكون الضمير عائداً على ما فقط وهذا الذي ذكره وهو تقريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية وهو مذهب مرجوح. ومذهب سيبويه أن إن بعد لو في موضع رفع على الابتداء والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة وعلى التقريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون، ومثله مفعولاً معه، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل وهو ثبت بوساطة الواو فيه. ولما تقدم من وجود لفظه معه وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأن ثبت ليست رافعة ما العائد عليها الضمير وإنما هي رافعة مصدر انسبكا من ان وما بعدها وهو كون إذ التقدير لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه ليقتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل وهذا فيه غموض، وبيانه أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمراً، وجعلت عمراً مفعولاً معه، والعامل فيه يعجبني لزم من ذلك أن عمراً لم يقم وأنه أعجبك القيام وعمرو وال جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً، وكان الإِعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً القيام عمرو. فإِن قلت: هلا كان ومثله معه مفعولاً معه والعامل فيه هو العامل في لهم، إذ المعنى عليه؟ قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة. وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أن قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه واما هذا لك وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل. "انتهى". فأفصح سيبويه بأن اسم الإِشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ولو كان أحدهما يجوز أن ينصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لإِسم الإِشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أنه يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله معه أن يكون ومثله مفعولاً على أن العامل هو العامل في لهم.
{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } الآية، قال السائب: نزلت في طعمة بن أبيرق ومضت قصته في سورة النساء ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي منها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإِنسان في شيء من الحرابة ثم ذكر حال الكفار ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة، على ما يأتي ذكره. وهي أيضاً حرابة من حيث المعنى لأن فيها سعياً بالفساد إلا أن تلك على سبيل الشوكة والظهور والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر. والظاهر عموم السارق والسارقة فيمن سرق قليلاً أو كثيراً، واختلفوا فيما يقطع فيه السارق فقيل: يقطع في القليل والكثير كما دل عليه ظاهر العموم وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب داود والخوارج. قال داود ومن وافقه: لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة بل في أقل شيء يسمى مالاً وفي أقل شيء يخرج الشح والفئة. وقيل: النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقيل: ربع دينار فصاعداً أو قيمتها من غيرها وهو قول الصحابة وبعض التابعين وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور. وقيل: خمسة دراهم وهو قول أنس وعروة وسليمان بن يسار والزهري. وقيل: أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وقيل: ثلاث دراهم وهو قول ابن عمر وبه قال مالك وإسحاق وأحمد إلا أن كان ذهباً فلا يقطع إلا في ربع دينار. وقيل: درهم فما فوقه وبه قال عثمان الليثي وقطع عبد الله ابن الزبير في درهم. وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه. وقرأ الجمهور "والسارق والسارقة" بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، ولا يجيز سيبويه أن يكون الخبر قوله: { فَٱقْطَعُوۤاْ }، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر المبتدأ موصول بظرف أو مجرور أو جملة صالحة لأداة الشرط الموصول هنا أل وصلتها اسم فاعل أو إسم مفعول وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ والخبر جملة الأمر. اجرَوْا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه الذي سرق والتي سرقت. وقد تجاسر الفخر الرازي وأساء الأدب على سيبويه وتكلمنا معه بما يوقف عليه في البحر الملخص منه هذا الكتاب. وقرىء شاذاً والسارق والسارقة بالنصب على الاشتغال أي اقطعوا السارق والسارقة، كما تقول: زيداً فاضربه أي اضرب زيداً فاضربه. وللزمخشري في هذه القراءة كلام غريب فهمه عن تحرير كلام سيبويه ورددناه عليه في البحر. والمخاطب بقوله: فاقطعوا، هو في تولي أمور المسلمين ممن يكون له إقامة الحدود عليهم. والظاهر من قوله: أيديهما، أنه يقطع من السارق يداه الثنتان لكن الإِجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يقطع من السارق يمناه ومن السارقة يمناها. قال الزمخشري: أيديهما يديهما ونحوه فقد صغت قلوبكما النفي بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم. "انتهى".
وسوى الزمخشري بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر، وأما إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإِن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد وإنما يحفظ ولا يقاس عليه. ولم تتعرض الآية في قطع الرجل في السرقة، وفي ذلك خلاف، ذكر في مسائل الخلاف وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب وهو مذهب الخوارج. ومذهب الجمهور أنه من الرسغ وفي الرجل من المفصل. وروى عن علي أنه في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم وهو معقد الشراك. والظاهر أن المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط فإِن كان المال قائماً بعينه أخذه صاحبه وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه، وبه قال مكحول وجماعة من التابعين. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يضمن ويغرم. وقال مالك: إن كان موسراً ضمن أو معسراً فلا شيء عليه.
{ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } الآية، قال الكسائي انتصب جزاء على الحال وقال قطرب على المصدر أي جزاء وهما جزاء. وقال الجمهور على المفعول من أجله وبما يتعلق بجزاء وما موصولة أي بالذي كسباه، ويحتمل أن تكون ما مصدرية أي جزاء بكسبهما وانتصاب نكالاً على المصدر أو على أنه مفعول من أجله والنكال: العذاب. والنكل: القيد. وتقدم الكلام عليه عند فجعلناها نكالاً. وقال الزمخشري: جزاء ونكالاً مفعول لهما. "انتهى".
وتبع في ذلك الزجاج وقال الزجاج هو مفعول من أجله يعني جزاء، قال وكذلك نكالاً من الله. "انتهى". وهذا ليس بجيد إلا إذا كان الجزاء هو النكال فيكون ذلك على طريق البدل واما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف.
{ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية، حكيم في فرائضه وحدوده. وروي أن بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ هذه الآية، وختمها بقوله: { ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليست التلاوة كذلك وإنما هي: والله عزيز حكيم. فقال: بخ بخ عز فحكم فقطع.
{ فَمَن تَابَ } هذا عام في كل تائب من جراءته وسرقة وغيرهما، وقوله: ظلمه، هو مصدر مضاف للفاعل أي من بعد أن ظلم غيره أو نفسه بالمعصية. وقوله: وأصلح عطف على تاب فلم يقتصر على توبته وإصلاحه هو تنصله من التبعات، ومعنى يتوب عليه، أي يتجاوز عنه. { أَلَمْ تَعْلَمْ } خطاب للسامع، وهو تقرير معناه الإِثبات أي قد علمت وقدم يعذب هنا على يغفر لأنه تقدم ما يصنع بالمحارب من العذاب وبالسارق من القطع فذكر التعذيب أولاً أردع له وأطلق التعذيب فجاز أن يراد به التعذيب في الدنيا أو في الآخرة أو كليهما. ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء تعذيبه وكذلك قوله: ويغفر لمن يشاء. أي يشاء غفران ذنبه.