التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
٦٥
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٦٧
قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٦٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٩
-المائدة

النهر الماد

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ } الآية نزلت في فنحاص وابن صوريا وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك ونسب ذلك إلى اليهود لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك واليد حقيقة في الجارحة، وفي غيرها مجاز فيراد بها النعمة والقوة والملك والقدرة، وظاهر قول اليهود ان لله تعالى يدا فإِن كانوا أرادوا الجارحة فهو يناسب مذهبهم إذ هم مجسمة، وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ومنه لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط.
{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } خبر وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة، قاله الحسن. أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم، قال الزجاج. ويظهر أن قولهم: يد الله مغلولة، استعارة من الامساك من الإِحسان الصادر من المقهور على الإِمساك ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ولا يغل إلا المقهور، فجاء قوله: غلت أيديهم، دعاء عليهم بغل الأيدي فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا يستعلي فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم وان أيديهم لا تبسط لدفع ضر نزل بهم وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم: يد الله مغلولة، وليست هذه المقالة بدعاء منهم. فقد قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء.
{ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } يحتمل أن يكون خيراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله تعالى مما لا يجوز نسبته إليه فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } معتقد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم ولا جارحة له ولا يشبهه شيء من خلقه ولا يكيّف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث، وأدلة هذا مقررة في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ وأضاف ذلك إلى اليدين جرياً على طريقة العرب في قولهم: فلأن ينفق بكلتا يديه، ومنه قول الشاعر:

يداك يدا مجدا فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالمال تنفق

ويؤيدان اليدين هنا بمعنى الانعام قرينة الإِنفاق ومن نظر في كلام العرب أدنى نظر عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل.
{ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } هذا تأكيد للوصف بالسخاء وإنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته. ولا موضع لقوله: ينفق، من الإِعراب إذ هي جملة مستأنفة. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال وهي نصب بيشاء. "انتهى". ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال بل هي بمعنى الشرط كما تقول كيف يكون أكون وفعول يشاء محذوف وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم كما يدل في قولك: أقوم ان قام زيد، على جواب الشرط والتقدير ينفق كيف يشاء أن ينفق كما تقول: كيف أضربك أضربك ولا يجوز أن يعمل في كيف ينفق لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً فقد يعمل في بعض أسماء الشرط ونظير ذلك قوله تعالى:
{ فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ } [الروم: 48].
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً } ذكر كثيراً لأن منهم من آمن كعبد الله بن سلام. { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ } الآية، قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى لأنه جرى ذكرهم في قوله: لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ولشمول قوله: قل يا أهل الكتاب، للفريقين، وهذا قول الحسن وغيره. وقيل: هو عائد على اليهود إذ فيهم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهه وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ولا يقدرون على حربك ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك لأن الطائفتين لا توادّ بينهما فيجتمعان على حربك وفي ذلك اخبار بالمغيب وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ كان الإِسلام وإلى هذا الوقت.
{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ } الآية قال الجمهور: هي استعارة. وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك وتفرق آرائهم وحل عزائمهم وتفريق كلمتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم فهم لا يرون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد.
{ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } الظاهر أنه يراد به العمل والفعل، أي يجتهدون في الكيد للإِسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم، والأرض يجوز أن يراد بها الجنس أو أرض الحجاز فتكون آلْ فيه للعهد.
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } قيل المراد أسلافهم ودخل فيها المعاصرون بالمعنى والغرض الاخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم والذي يظهر أنهم معاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإِسلام وذكر شيئين وهما الإِيمان والتقوى، ورتب عليهما شيئين وهما قابل الإِيمان بتكفير السيئات إذ الإِسلام يجب ما قبله، ورتّب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي دخول جنة النعيم وأضاف الجنة إلى النعيم تنبيهاً على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وإن في قوله: ولو أنهم، حرف مصدري ينسبك منه ما بعده مصدر. فقيل: يرتفع على الفاعلية التقدير لو ثبت إيمانهم وتقواهم لكفرنا عنهم. وقيل: هو مبتدأ والخبر محذوف التقدير لو أن إيمانهم وتقواهم موجودان لكفرنا.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } الآية هذا استدعاء لإِيمانهم وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإِحسان إليهم في الدنيا ولما رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي والذي به النجاة السرمدية والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإِنجيل إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه فهو كقولهم: أقاموا السوق، أي حركوها وأظهروها وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيئاته وفي قوله: والانجيل، دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب.
وظاهر قوله: { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } العموم في الكتب الإِلهية مثل كتاب أشعياء وكتاب دانيال فإِنها مملوءة من البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن.
وظاهر قوله: { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } انه استعارة عن سبوغ النعم عليهم وتوسعة الرزق، كما يقال: قد عمّه الرزق من فوقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت. وقال ابن عباس وغيره: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها، كقوله تعالى:
{ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96]. { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله وكثير منهم. والاقتصاد: من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي كانت أولاً جائرة ثم اقتصدت. وقيل: هم مؤمنوا الفريقين كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى واقتصادهم هو الإِيمان بالله تعالى. { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } هذا تنويع في التفصيل فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور ومقتصدة وصف. والجملة الثانية جاء فيها الوصف الجار والمجرور. والخبر الجملة من قوله: ساءياً يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً والوصف ألزم للموصوف من الخبر فأتى بالطائفة الممدوحة بالوصف اللازم وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ثم قد تزول هذه النسبة بالاسلام فيكون التعبير عنهم والإِخبار بأنهم منهم باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإِنهم منهم حقيقة لأنهم كفار فجاء الوصف بالإِلزم ولم يجعل خبراً أو جعل خبر الجملة التي هي "ساء ما يعملون" لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإِخبار بمضمون هذه الجملة واختيار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تتصرف قال: فيه التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسؤا عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء. وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس، كقوله تعالى: { سَآءَ }، مثلاً فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون المؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تقدير تمييز أي ساء عملاً ما كانوا يعملون. "انتهى". فإِذا كانت ساء للتعجب كان وزنها فعل كما تقول: قضُوا لرجل، أي ما أقضاه. وكذلك يكون وزنها فعل إذا كانت من باب نعم وبئس وإذا كانت متصرفة متعدية كان وزنها فعل بفتح العين ويجوز في ما أيضاً أن تكون مصدرية أي ساء عملهم وأن تكون موصولة بمعنى الذي ويكون التقدير ما يعملونه وحذف الضمير العائد على الموصول.
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } الآية، هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الانساني وأمر بتبليغ ما أنزل الله إليه وهو عليه السلام قد بلغ ما أنزل إليه فهو أمر بالديمومة. { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } تبليغ ما أنزل إليك. وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط إذ صار المعنى وإن لم تفعل لم تفعل فالجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. وقال الزمخشري: المراد وإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبّب ويعضده قوله عليه السلام: فأوحى الله إلي ان لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك. "انتهى". وقال ابن عطية: أي ان تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل وصار ما بلغت غير معتدّ به، فمعنى وإن لم تفعل، وإن لم تستوف.
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الإِعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله. "انتهى". وهو غورث بن الحارث وذلك في غزوة ذات الرقاع.
"وهذه الآية نزلت بالمدينة والرسول مقيم بها سهر ليلة وحرسه سعد وحذيفة. فنام حتى غط فنزلت فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني" . وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي } الآية أي من قضي عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهديه الله أبداً فليس لفظ الكافرين على عمومه لأنه قد وجد كفار وقد هداهم الله.
{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } الآية
"قال رافع بن حارثة وغيره: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى وأن ذلك حق. قال: بلى ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم. فقالوا: انا نأخذ بما في أيدينا فإِنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك" فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإِنجيل وما أنزل فأغنى عن إعادته ونفي أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدماً صرفاً لفساده وبطنه فنفاه من أصله أو لاحظ فيه صفة محذوفة أي على شيء يعتد به فنتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف. والضمير في تقيموا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقيل: جمع الضمير والمقصود التفصيل أي حتى يقيم أهل التوراة التوراة ويقيم أهل الإِنجيل الإِنجيل ولا يحتاج إلى ذلك أن أريد ما في الكتابين من التوحيد فإِن الشرائع فيه متساوية.
{ فَلاَ تَأْسَ } أي لا تحزن عليهم فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على العلة الموجبة لعدم لتأسف وهي الفسق، أو هو عام فيندرجون فيه.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية تقدم الكلام على نظيرها. وقرأ أبيّ وعثمان وغيرهما والصابئين منصوباً عطفاً على اسم إن وما بعدها. قال الزمخشري: وبها قرأ ابن كثير. "انتهى". وليس ذلك مشهوراً عن ابن كثير. وقرأ القراء السبعة والصابئون بالرفع ووجه ذلك على وجوه منها مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة انه مرفوع بالابتداء وهو منوي به التأخير ونظيره أن زيداً وعمرو قائم، التقدير أن زيداً قائم وعمرو قائم فحذف خبر عمرو لدلالة خبر ان عليه. والنية بقوله: وعمرو، التأخير ويكون وعمرو قائم بحبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من آل زيداً قائم وكلاهما لا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني أنه معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول ان كان في موضع رفع فروعي هذا الموضع، وهذا مذهب الكائن والفراء. ودلائل هذه المسألة مقررة في علم النحو.