التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٥٧
وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
٥٨
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٥٩
قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٦٠
قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٦١
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦٢
-الأعراف

النهر الماد

{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } لما ذكر الدلائل على كمال ألوهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي اتبعها بالدلائل على أحوال العالم السفلي وجعل الخبر موصولاً في أن ربكم الله الذي خلق وفي قوله: وهو الذي، دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقق النسبة فيه والعلم به, ولم يأت التركيب أن ربكم خلق ولا هو يرسل الرياح. نشراً جمع نشور كصبور وصبر. وقرىء: نشراً بإِسكان الشين تخفيفاً من الضم كرسل ورسل ونشراً مصدر نشر وبشرى والألف للتأنيث وهو مصدر بشر كرجعى ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً والتعبير عن امام الرحمة بقوله: بين يدي رحمته من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإِنسان من الاجرام.
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } هذه غاية لإِرسال الرياح، والمعنى أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أو مبتشرات إلى سوق السحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت. والسحاب إسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله تعالى:
{ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ } [البقرة: 164]، ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله تعالى: { ثِقَالاً }، وثقله بالماء الذي فيه، ونسب السوق إليه تعالى بنون العظمة التفاتاً إذ فيه خروج من ضمير الغيبة في رحمته إلى ضمير المتكلم في سقناه ولما فيه من عظيم المنة وجليل النعمة ذكر الضمير في سقناه رعياً للفظه كما قلنا أنه يذكر. واللام في لبلد لام التبليغ كقولك: قلت لك. وقال الزمخشري: لأجل بلد، فجعل اللام لام العلة ولا يظهر وفرق بين قولك: سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً، فإِن الأول معناه أوصلته لك وأبلغتك هو، والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق. ألا ترى صحة قول القائل: لأجل زيد سقت لك مالك. ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدْبه وعدم نباته كأنه من حيث عدم الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه.
{ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ } الظاهر أن الباء ظرفية، والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور فحسن عوده إليه.
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي بالماء.
{ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } ظاهره العموم.
{ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ } أي مثل هذا الإِخراج وهو إخراج النبات نخرج الموتى من قبورهم أحياء إلى الحشر.
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بإِخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذاً لإِخراجان سواء فهذا الإِخراج المشاهد نظيره الإِخراج الموعود به.
{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } الطيب: الجيد التربة الكريم الأرض.
{ وَٱلَّذِي خَبُثَ } المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض. ولما قال: فأخرجنا به من كل الثمرات، تم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السبخة. وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً، وحذفت لفهم المعنى ولدلالة البلد الطيب عليها ولمقابلتها بقوله:
{ إِلاَّ نَكِداً } ولدلالة بإِذن ربه لأن ما أذن الله تعالى في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال وبإِذن ربه في موضع الحال وخصّ خروج النبات الطيب بقوله: بإِذن ربه، على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الأشياء الشريفة الطيبة إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإِذنه تعالى. ومعنى بإِذن ربه: بتيسيره. وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً، والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة والبلد الطيب عليه فكل من الجملتين فيه حذف.
{ كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوع الآيات ونرددها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامّة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرياح مبشرات ومنتشرات سبباً لإِيجاد النبات الذي هو سبب إيجاد الحياة وديموميتها كان ذلك أكبر نعمة على الخلق فقال: لقوم يشكرون أي يشكرون هذه النعمة التي لا تكاد توازيها نعمة وخص الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بهذه النعم.
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً } الآية لما ذكر تعالى في هذه السورة مبدأ الخلق الإِنساني وهو آدم عليه السلام وقص من أخباره ما قصَّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار قص تعالى على نبيه أحوال الرسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم والتأسي بهم فبدأ بنوح عليه السلام إذ هو آدم الثاني وأول رسول بعث إلى من في الأرض، وأمته أدوم تكذيباً له وأقل استجابة له. وتقدم رفع نسبه إلى آدم عليه السلام وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن أربعين سنة، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: فإِن قلت: ما بالهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وقل عنهم: حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا. قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم. "انتهى". وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماض مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أتيت مع اللام بقد الدالة على التقريب من زمن الحال ولم تأت بقد بل باللام وحدها ان لم ترد التقريب.
{ قَالَ يَٰقَوْمِ } في ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها. والجملة المنبهة على الوصف الداعي إلى عبادة الله تعالى وهو انفراده بالألوهية المرجوّ إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم.
{ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } قرىء: غيره بالجر نعتاً لإِله على اللفظ. وقرىء غيره بالرفع نعتاً لإِله على الموضع. ومن زائدة، وإله مبتدأ، ولكم خبره. وأخاف على بابها من الخوف لأنه يجوز عنده أن يؤمنوا أو يؤمن بعضهم، ويوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان. وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم.
{ قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ } الملأ هم الأشراف وساداتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة والعلو فيها ونراك الظاهر أنها من رؤية البصر، وفي ضلال جعلوه ظرفاً لنوح عليه السلام ومعنى مبين واضح وجاءت جملة جوابهم مؤكدة بأن وباللام.
{ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ } لم يرد النفي فيه على لفظ ما قالوه فلم يأت التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الإِنتفاء من الضلال إذا لم تتعلق به ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانياً والإِعراض عن جفائهم ما يدل على سعة صدره والتلطف بهم، ولما نفى عنه التباس ضلالة ما به دل على أنه الصراط المستقيم، فصح أن يستدرك كما تقول: ما زيد بضال لكنه مهتد، فلكن واضعة بين نقيضين لأن الإِنسان لا يخلو من أحد الشيئين الضلال والهدى ولا تجامع الضلالة الرسالة.
وفي قوله: { مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة.
و{ أُبَلِّغُكُمْ } إستئناف على سبيل البيان لكونه رسولاً، أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبر الضمير متكلم، كما تقول: أنا رجل آمر بالمعروف، فتراعي لفظ أنا. ويجوز يأمر بالمعروف تراعي لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب. قال تعالى:
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [النمل: 47]، بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربياً مراعاة للفظ قوم لأنه غائب. وجمع رسالات باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزجر والوعظ والتبشير والإِنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله. وتقدم الكلام على نصح وتعديتها باللام نحو: نصحت زيداً ونصحت لزيد. وكقول الشاعر:

نصحت بني عوف فلم يتقبلوا وصاتي فلم تنجح لديهم وسائلي

وفي قوله: { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إبهام عليهم وهو عام، ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قط بأمة عذبت، فتضمن التهديد والوعيد. وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً أبلغكم رسالات ربي وهذا مبْدأ أمره معهم وهو التبليغ كما قال: { { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [الشورى: 48]. ثم قال: وأنصح لكم، أي أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحدهُ. ثم قال: وأعلم من الله ما لا تعلمون، من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره معهم ومنتهاه.