التفاسير

< >
عرض

أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٦٣
فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
٦٤
وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٦٥
قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٦٦
قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ
٦٧
أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلٰتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ
٦٨
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٦٩
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٧٠
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ
٧١
فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٧٢
-الأعراف

النهر الماد

{ أَوَ عَجِبْتُمْ } الآية، تضمن قولهم: { { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الأعراف: 60]، استبعادهم واستمحالهم وأخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله تعالى إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك. والهمزة للإِنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يتعجب منه إذ له تعالى التصرف التام بإِرسال من يشاء لمن يشاء. قال الزمخشري: الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم. "انتهى". وهذا كلام مخالف لكلام سيبويه والنحاة لأنهم يقولون ان الواو تعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكان الأصل وأعجبتم لكنى أعتني بهمزة الاستفهام فقدمت على حرف العطف لأن الاستفهام له صدر الكلام.
{ ذِكْرٌ } أي كتاب.
{ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ } هو على حذف مضاف تقديره على لسان رجل منكم، إن جاءكم على إسقاط حرف الجر تقديره لأنْ جاءكم وهو تعليل لعجبتم.
{ لِيُنذِرَكُمْ } به أي فجاءكم الذكر للإِنذار بالمخوف والإِنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها، فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأن المرتب على السبب سبب.
وفي قوله: { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ } إعلام بعلة الغرق وهو التكذيب.
و{ بِآيَاتِنَآ } يقتضي أن نوحاً عليه السلام كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله والفلك يذكر ويفرد كقوله تعالى:
{ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [يس: 41]. ويجمع كقوله تعالى: { وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس: 22]، ويتعلق في الفلك بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك. ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان.
و{ عَمِينَ } من عمى القلب، أي غير مستبصرين. ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحدوث لجاء على فاعل. وقال معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، وأعمى في البصر. قال زهير الشاعر:

ولكنني عن علم ما في غد عمي

{ وَإِلَىٰ عَادٍ } إلى متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى عاد وعاد اسم الحي ولذلك صرفه. وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف. قال الشاعر:

لو شهد عاد في زمان عادِ لابتزها مبارك الجلاد

سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوض بن أرم بن نوح وهود. وقال شيخنا الأستاذ الحافظ أبو الحسن الأُبَّدي النحوي المعروف: أن هوداً عربي. والذي يظهر من كلام سيبويه لما عدّه مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده. "انتهى". وهود هو غابر بن شالخ بن أرمخشد بن سام بن نوح ونزل أرض اليمن فهو أب لليمن كلها.
و{ أَخَاهُمْ } مفعول بأرسلنا المحذوفة وأخاهم ليس من عاد بل هو مجاز كما تقول: يا أخا العرب، للواحد منهم. وقيل: هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض بن أرم بن سام بن نوح، فعلى هذا يكون من عاد.
{ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } تقدم الكلام على هذا.
{ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى مخافة أن تحل بهم واقعة قوم نوح.
{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } أتى بوصف الملأ بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأن قوم هود كان في أشرافهم من كان آمن به منهم مَرثَد بن سعد بن عفير ولم يكن في اشراف قوم نوح مؤمن، فلذلك قالوا: واتبعك الأرذلون.
{ فِي سَفَاهَةٍ } أي في خفة حلم وسخافة عقل وسفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشىء. واتبعوا ذلك بقولهم:
{ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب من أن لم يتقوا الله تعالى.
{ قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } تقدمت كيفية هذا النفي في قوله:
{ { لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ } [الأعراف: 61]، وهناك جاء: وأنصح لكم، وهنا جاء: وأنا لكم ناصح أمين، لما كان أخرجوا بهم جملة إسمية جاء قوله كذلك، فقالوا هم: وإنا لنظنك من الكاذبين. قال هود: وأنا لكم ناصح أمين. وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي تحمّله الإِنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين.
{ أَوَ عَجِبْتُمْ } تقدم الكلام عليه.
{ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ } إذ ظرف لما مضى وناصبه محذوف تقديره واذكروا انعامه عليكم وقت جعلكم خلفاء فإِنعامه مفعول اذكروا. قال الزمخشري: إذ مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم. وهذا ليس بجيد لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف فلا تكون مبتدأة ولا فاعلة ولا مفعولة. ومعنى خلفاء: أي ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها.
{ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } هذا يدل على قرب زمانهم من زمن نوح.
{ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً } ظاهر بعض التواريخ أن البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال. ويحتمل أن يكون المعنى وزادكم بسطة أي اقتداراً في المخلوقين وتسليطاً عليهم واستيلاءً.
{ فَٱذْكُرُوۤاْ ءَالآءَ ٱللَّهِ } الآلاء: النعم واحدها إلى نحو: معي وأمعاء. ذكرهم أولاً نعماً مخصوصة من جعلهم خلفاء وزيادة البسطة وذكرهم ثانياً نعمه مطلقاً وناط بذكر نعمه رجاء فلاحهم.
{ قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ } الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله تعالى بالعبادة مع اعترافهم بالله تعالى حباً لما نشأوا عليه وتألفاً لما وجدوا آباءهم عليه.
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر. وقولهم ذلك يدل على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلاً.
{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } قال ابن عباس: الرجس السخط أي حل بكم وتحتم عليكم.
{ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيۤ أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ } هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول تستحق العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك. ومعنى سميتموها. أي أحدثتموها قريباً أنتم وأباؤكم، وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكر ذلك مرثد بن سعد في شعره فقال:

عصمت عاد رسولهم فأضحوا عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصّرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء

{ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } وهذا غاية في التهديد والوعيد أي فانتظروا عاقبة أمركم في عبادة غير الله تعالى وفي تكذيب رسوله عليه السلام وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وأنه كائن لا محالة.
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } يعني من آمن معه برحمة سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلوا منهم. فكان ذلك سبباً لنجاتهم مما أصاب قومه من العذاب.
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } كناية عن استئصالهم بالهلاك وبالعذاب. وتقدم الكلام في دابر في قوله:
{ { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنعام: 45]. وفي قوله: الذين كذبوا، تنبيه على علة قطع دابرهم. وفي قوله: بآياتنا، دليل على أنه كانت لهود عليه السلام معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعينيها.
{ وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } جملة مؤكدة لقوله: كذبوا بآياتنا، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيماناً البتة.