التفاسير

< >
عرض

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
٥٠
قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
٥١
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
٥٢
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٥٣
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
٥٤
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ
٥٥
وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
٥٦
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
٥٧
وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
٥٨
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَاغِبُونَ
٥٩
-التوبة

النهر الماد

{ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } قال ابن عباس: الحسنة يوم بدر، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه. وسياق الجمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو، ولذلك قالوا: الحسنة: الظفر والغنيمة، والمصيبة: الخيبة والهزيمة، مثل ما جرى في غزوة أحد، ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالجزم في التخلف عن الغزو من قبل ما وقع من المصيبة.
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ } الآية، أي ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب اما النصرة واما الشهادة، فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة.
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } قرىء: بضم الكاف ويعني في سبيل الله ووجوه البر، وهو أمر معناه التهديد والتوبيخ، انفقوا قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير ان تنفقوا لن يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط. "انتهى".
ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب، فلن يتقبل بالفاء لأن لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضمّن معناه. وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله. والكره إلزام ذلك، وسمي الإِلزام إكراهاً لأنهم منافقون فصار الإِلزام شاقاً عليهم كالإِكراه. وعلل انتفاء التقبل بالفسق، والمراد به هنا الكفر، ويدل عليه قوله في الآية بعدها.
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ } الآية، وذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، واتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه وذلك إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون، والكسل في الصلاة، وترك النشاط إليها، وأخذها بالإِقبال من ثمرات الكفر فإِيقاعها عندهم لا يرجون به ثواباً ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً، وكذلك الإِنفاق للأموال لا يخرجون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثواباً.
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ } لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها تعالى أسباباً لتعذيبهم بها في الدنيا، أي فلا تعجبك أيها السامع بمعنى لا تستحسن ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. والضمير في "بها" عائد على الأموال. واللام في "ليعذبهم" لام كي. ومفعول يريد محذوف تقديره يريد كسبهم الأموال والأولاد لأجل تعذيبهم.
{ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } أي لمن جملة المسلمين.
واكذبهم بقوله: { وَمَا هُم مِّنكُمْ }.
ومعنى يفرقون: يخافون القتل، وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإِسلام تقية وهم يبطنون النفاق.
{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً } لما ذكر تعالى فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهرب منهم لهربوا ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار، والملجأ: الحرز. والمغارات جمع مغارة وهي الغار تجمع على غير أن يبنى من غار يغور إذا دخل بدأ أولاً بالأَعم وهو الملجأ إذ يطلق على كل ما يلجأ إليه الإِنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثاً بالمداخل وهو النفقُ باطن الأرض.
و{ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } أي إلى واحد من الثلاث.
{ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شىء.
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ } اللامز هو حرقوص بن زهير التميمي وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعدلّ يا رسول الله. الحديث. وقيل: غيره.
والمعنى من يعيبك في قسم الصدقات. والضمير في { وَمِنْهُمْ } للمنافقين. والكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترديد بين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم وان لمزهم الرسول عليه السلام إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وان رضاهم وسخطهم إنما متعلقة العطاء.
والظاهر حصول مطلق الاعطاء أو نفيه، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يتعقبه بل قد يجوز أن يتأخر نحو: ان اسلمت دخلت الجنة، فإِنما يقتضي مطلق الترتيب، وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإِذا الفجائية وانه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم. ولم يمكن تأخره لما جلبوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها.
ومفعول رضوا محذوف، أي رضوا ما أعطوه، وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين بل لأجل الدنيا. وجاءت إذا الفجائية رابطة لجواب الجزاء بجملة الشرط ولا نحفظه جاءت إذا جواباً للشرط إلا وحرف الشرط انْ، وكذلك في قوله:
{ { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم: 36]، وسائر أدوات الشرط كانت أسماء كَمَنْ وَمَا ومَهْما. أو ظرف زمان كمتى وأيان، أو مكان كحيثُمَا، لا نعلمه جاء جواب شىء منها بإِذا الفجائية على كثرة مطالعتي لدواوين العرب.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ } الآية، هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله ورسوله. وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم. وكانت رغبتهم إلى الله تعالى لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم.