التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٤
-يونس

تيسير التفسير

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَّاوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام } أَوقات، أَو مقدار ستة أَيام من أَيام الدنيا بلياليها، واليوم فى اللغة يطلق على الوجهين وعلى النهار لا حقيقتها لأَنه لا شمس قبل خلقهن، يروى عن ابن عباس أَن كل يوم من الستة ألف سنة، فالستة من أَيام الآخرة وهو قادر أَن يخلقهن وأَضعافهن فى أَقل من لحظة، ولكن تعليم لخلقه أَن يتمهلوا للتثبت، والله يختص بعلم حكمة الستة الخاصة مع أَن التثبت يمكن بأَقل وبأَكثر أَيضاً، ويقال السماوات والأَرض هن أَصول الحوادث اليومية لأَن السماءَ والأَرض كالقابل ولا يحتاج إِلى هذا مع إِيهامه أَن للنجوم تأْثيراً فى الحوادث، وهو قول الكفرة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } خلقه، وكان الاستواءُ على ظاهره مع القول بلا كيف فإِنه دخول فى الظلمة بعد وجود النور، ومن كان غنياً عن الأَمكنة والأَزمنة فهو غنى عنها لا يحل فيها، تعالى عن صفات الخلق، والعرش قبل السموات لقوله تعالى: وكان عرشه على الماءِ، فثم بمعنى الواو أَو للترتيب الذكرى بلا مهلة، ومر كلام فى الأَعراف، ويجوز أَن يراد بالعرش واستوائه عليه تصرفه فيه بالإِحداث والإِعدام والتحريك والإِسكان وجميع الأَحوال. وقيل الاستواءُ على العرش بسط السماوات والأَرض وتشكيلها بالأَشكال الموافقة لمصالحها وما خلقن لأَجله وغير ذلك { يُدَبِّرُ } يقدر وحده بحسب الحكمة والمراتب، وفسره مجاهد بالقضاءِ ولا يحتاج إِلى فكر، ولاعتبار الحكمة ناسب لفظ يدبر فهو مجازى باللزوم والتسبب، ومعنى يدبر دبر فهو بمعنى الماضى وليس للتجدد إِلا على معنى متعلق تدبيره الأَزلى، فإِنه يتعلق بالحادث إِذا حدث { الأَمْرَ } أَو حال من ضمير استوى أَو مستأْنف { مَا مِنْ شَفِيعٍ } لأَحد فى وقت من الأَوقات { إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذنِهِ } دفع لأَن يساوى أَو يفاق، ورد على من زعم أن الأَصنام تشفع فإِنها ليست أَهلا أَن تشفع بدليل ضعفها وعدم تكليفها، وإِثبات للشفاعة لمن أَذن له فيها لفضله بالعمل بالتكليف، والأَصنام لا تنطق ولا تدرك فكيف تشفع فليس من شأْنها أَن يؤذن لها، وإِنما الإِذن لطالبه المدرك، فالآية تتضمن نفى إِدراكها ونطقها، ونفى شفاعتها، والجملة خبر آخر أَو حال من ضمير يدبر أَو مستأْنف { ذَلِكُمُ } أَى الخالق المستوى على العرش المدبر للأَمر الذى لا يخرج شىءٌ عن إِذنه { اللهُ } خبر أَو بيان { رَبَّكُمْ } خبر ثان أَو خبر وهذا تأْكيد لقوله { إِن ربكم الله الذى خلق } إِلخ { فَاعْبُدُوهُ } وحدوه أَو اعبدوه وحده، عطف إِنشاء على إِخبار، وإِن شئْت فذالكم إِلخ بمعنى وحدوه، فهو فى معنى الأَمر، واعبدوه أَطيعوه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أَتعلمون أَن الأَمر ذلك فلا تذكرون أَنه لا شريك له فى الأُلوهية ولا فى العبادة كما أَنه لا يشاركه شىء فى الخلق والتدبير ولا يستقل بهما غيره، وأَنه لا يعبث ولا يترك الخلق سدى فلا بد أَن يكون للعالم خالق مخالف لها قادر، كما قال إِن ربكم إِلخ، وأَن يتحقق البعث للجزاءِ المرتب على الإِنذار والتبشير كما قال:
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } إِلخ فلا بد من بعث الرسول لإِقامة الحجة ومن الرجوع إِلى الله إِلى غيره ولا مع غيره بالبعث للجزاءِ فاستعدوا لذلك. { وَعْدَ اللهِ حَقّاً } مثل ما تقدم { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ } بالإِنشاءِ { ثُمَّ يُعِيدُهُ } بعد موته، تعليل جملى أَو مستأَنف كأَنه قيل كيف يكون المرجع إِلى الوعد، فقال إِنه يبدأُ الخلق فإِذا قدر على بدئه فكيف لا يقدر على إِعادته فى بادىءِ الرأَى، وأَما عند الله فسواءٌ، والمضارع للتجدد والتكرير أَولى من كونه بمعنى الماضى والخلق بمعنى المخلوق { لِيَجْزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وترك المحرمات. وترك المحرمات عمل صالح. أَو يقدر واتقوا { بِالْقِسْطِ } بعدله سبحانه وتعالى أَو بعدلهم فى الاعتقاد والقول والعمل، أَو جزاء التوحيد التام المستتبع للعمل كما أَنه سمى الشرك بضد العدل إِن الشرك لظلم عظيم، متعلق بيجزى حال من الذين أَو ضمير يجزى كما رأَيت، والوجهان الآخران أَولى لمناسبتهما قوله تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } إِذا جزى الكفار بكفرهم فيكون جزى المؤمنين بكسبهم، وجزى الكفار بكسبهم، والباء عليهما بدلية أَو سببية، والحميم بالغ النهاية فى الحرارة، والأَنسب بقوله ليجزى إِلخ أَن يقال وليجزى الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أَليم، أَو ويجزى الذين كفروا إِلخ، أَو الذين كفروا بشراب إِلخ لكن لم يذكر الجزاءَ وعبر بالجملة الاسمية مبالغة فى استحقاقهم العذاب، والتنبيه على أَن المقصود من البدءِ والإِعادة بالذات هو الثواب وأَن العقاب واقع بالعرض إِذ لم يجعل العقاب علة للبدءِ والإِعادة كالإِثابة، ولو كان أَيضاً علة لكن ترك ذكره لذلك، والتنبيه على أَنه يتولى إِثابة المؤمنين بما يليق بلطفه، ولذلك لم يعينه فهو لا يدخل تحت ضبط، ولذلك أَضاف الجزاءَ لنفسه وأَما عقاب الكفرة فكأَنه داءٌ سافه إِليهم اعتقادهم، فكان سوءُ الاعتقاد فاعل العقاب، ولم يسند إِليه تعالى ولو كان مقصودا، وقوله
" { إِنه يبدأُ الخلق ثم يعيده } "[يونس: 4] إِلخ تعليل لقوله إِليه مرجعكم جميعاً، فإِنه لما كان المقصود بالذات وهو الإِثابة وبالعرض وهو العقاب من البدءِ والبعث مجازاة المكلفين على اعتقادهم وأَفعالهم كان مرجع الجميع إِليه خاصة، وللتأْكيد قال: والذين كفروا إِلخ بإِسنادين، ولم يقل للذين كفروا شراب بإِسناد واحد.