التفاسير

< >
عرض

إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
-هود

تيسير التفسير

{ إِلَى اللهِ } لا إِلى غيره وأَيضاً قدم لتربية المهابة { مَرْجِعُكُمْ } رجوعكم لا يفوته عقابكم الكبير الموعود به أَو بعد العذاب الكبير فى الدنيا عذاب يوم الرجوع إِلى الله عز وجل وكسر مرجع صحيح استعمالا شاذا قياسيا كما قال ابن مالك:

فى غير ذا عينه افتح مصدرا أو سواه اكسر

{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو قادر على إِيتاءِ كل ذى فضل فضله وعلى العقاب الشديد بدليل ما مر، وذكر بعض أَن قدير مبالغة فيكون العذاب شديدا لشدة قدرته كما قيل إِن أَفعال الله كلها قوية لقوته تعالى عن صفات الخلق، وعلى كل حال فالجملة تأْكيد لكبر اليوم أَو العذاب وتنبيه على أَن الكبر وصف لما وقع فيه لكن وصف به للملابسة على المجاز العقلى وعلى أَن المراد يوم القيامة ومن جملة قدرته بعثكم وجزاؤكم وعلمه بما فى الصدور كما قال:
{ أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورهُم } يصرفونها عن الحق إِلى الباطل والكفر يشغلون فى الخلوة بذم النبى صلى الله عليه وسلم وفى قلوبهم، فالذم ثنى للصدور وتكوينه فى القلب والخلوة استخفاءٌ كما قال { لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ } فالثنى كناية عن الإِعراض لأَنه من لوازمه وحقيقته إِمالة الجسم عن غير كإِمالة ثوب أَو جنب أَو استعارة تشبيها للمعقول بالمحسوس والأَصل يثنيون، ثقلت الضمة على الياءِ ونقلت إِلى النون المكسورة قبلها بعد إِزالة كسرها بالإِسكان وحذفت للساكن بعدها، والاستخفاءُ علة لقوله يثنون أَى يقتصرون على الذنب بقلوبهم وعلى الخلوة يستخفون فصح جعله علة للإِعراض المخصوص والخلوة لا كما قيل أَنه لا يصح وأَنه علة لمحذوف تقديره يريدون ليستخفوا لأَنه إِن أُريد يستخفوا مفعول ليريد فاللام زائِدة لا تعليل وإِن أُريد أَن المعنى يريدون الثنى ليستخفوا فذلك رجوع إِلى جعله علة ليثنوا، فإِن معنى أَراد إِكرامك لتكافئِه، وأَكرمك لتكافئه واحد من جهة التعليل، ويجوز أَن يكون معنى يثنون صدورهم يحنونها على الكفر وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن انحنى على شىءٍ محافظة عليه لا يظهرون ذلك ليخفى عن الله، وهذا شأْن طائِفة من المشركين ويبعد أَن يكون ذلك فى المنافقين، لأَن السورة مكية ولا مانع من النفاق فى مكة، قيل كان فيها الأَخنس بن شريق حلو اللسان والمنظر، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، وينطوى بما يكره، ولا مانع من كون الآية مدنية جعلت فى سورة مكية إِلا أَنه خلاف الأَصل لا يخرج عليه إِلا بحجة، وقد قال عبدالله بن شداد نزلت فى بعض المنافقين إِذ مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنا صدره وطأْطأَ رأْسه وغطى وجهه لئَلا يراه صلى الله عليه وسلم، فيدعوه إِلى الإِيمان، أَو فى المشركين مطلقاً بأَن لهم أَحوالا فى مكة، ففى بعض الأَحيان يخفون العداوة أَو المعنى يولون ظهورهم إِعراضاً عن الحق فإِن من ولى أَحد ظهره ثنى عنه صدره، يرون النبى صلى الله عليه وسلم فيولونه ظهورهم فثنى الصدر مجاز عن تولية الظهر أَولا ثم إِنه مجاز أَو كناية عن الإِعراض ثانيا. { أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } ليدخلوا رءُوسهم فيها للنوم مثلا { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ألا تأْكيد وتنبيه، وحين متعلق بيعلم قدم على طريق الاهتمام لا الحصر، فإِنه إِذا علم السر الذى فى وقت التغشية والتكييف فى القلب فأَولى أَن يعلم غير ذلك من وجوه السر، وهذا البادى الرائِى، وإِلا فاته استوى عنده كل سر وكل جهر، وأَيضاً لا يلزم من كونه يعلم كذا وقت كذا أَن لا يعلمه فى غيره وأَيضاً ورد ذلك على قوله إِنا إِذا أَخفينا شيئاً لم يعلمه الله فلا يخبر به محمدا أَو من معه فلا حاجة إِلى تعليقه بمحذوف فراراً من توهم أَنه لا يعلم فى غير ذلك وأَن التقدير أَلا يستخفون منه، أَو أَلا يردون الاستخفاءَ وأَيضاً هذا التقدير لا يناسبه التأْكيد والتنبيه وما موصول حرفى أَو اسمى أَى إِسرارهم وإِعلانهم أَو ما يسرونه وما يعلنونه، ويقال نزلت فى طائِفة من المشركين يقولون إِذا أَرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم، فكان الرجل يدخل بيته ويرخى ستره ويحنى صدره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما فى قلبى، ويقال: يحنون صدورهم لئلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره، ولا يصح ما قيل عن ابن عباس رضى الله عنهما إِنِ الآية نزلت فى أُناس يستحيون أَن يقضوا حاجة الإِنسان أَو يجامعوا فى غير ستر عن السماءِ لأَن اجتناب ذلك مأْمور به شرعاً فكيف تفسر الآية بنفيه، وكذا ما قيل أَنها نزلت فى أُناس يتعبدون بستر ما يستحى من كشفه من أَبدانهم إِلى السماءِ ولو غير عورة وقدم السر معاجلة عليهم بإِظهار ما أَضمروا واجتهدوا فيه وكأَنه يعلم سرهم أَكثر مما يعلم جهرهم، وليس كذلك بل هو سواءٌ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } بالاعتقادة ذات الصدور، أَو الخطرة ذات الصدور أَو الأَحوال ذات الصدور، والصدور والقلوب مجازا أَو هو على حقيقته فيكون ذات الصدور القلوب التى فيها أَو ما مر والعلم بالقلوب علم بأَحوالها فكيف يخفى منه شىءٌ، وقد علم ما فى الصدور فإِنه لا أَخفى منه إِلا ما سيقع وهو عالم به أَيضاً لأَن علمه ذاتى لا يشذ عنه شىءٌ، وفى الآية رد على من زعم من المعتزلة أَن الله لا يعلم الشىءَ حتى يقع، وهذا فى معنى الإِشراك تعالى الله وهم طائِفة منهم.