التفاسير

< >
عرض

إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٥٤
مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
٥٥
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٦
-هود

تيسير التفسير

{ إِن نَّقُولُ } ما نقول لك أَو فى شأْنك بأَلسنتنا المطابقة لقلوبنا أَو ما نعتقد { إِلاَّ اعْتَرَاكَ } تعرض لك أَو أَصابك { بَعْضُ آلِهَتِنَا } لعدم صبر هذا البعض، أَو ناب عن باقيها أَو أَراد أَى بعض كان فإِنه قادر أَن يعتريك { بِسُوءٍ } هو جنون أَو فساد الرأْى، فصرت تتكلم جنونا بما تدعيه وحيا لسبك إِياها وإِعراضك عنها ومنعك غيرك عنها. وعبروا باللفظ العام وهو السوء تلويحاً بأَنه جزاءُ فعل السوء. ويحتمل أَنهم أَرادوا مطلق السوء فيعم. إِلى أَن أَمثالهم يذكرون الجنون فناسب أَن يفسر به. ومجموع اعتراض بعض آلهتنا بسوءٍ اسم محكى بالقول، ومن العجيب تقدير قول ناصب لهذا المجموع، أَى قولنا اعتراك مع أَن هذا القول أَيضاً ناصب لمجموع هذه الأَلفاظ مراداً بها حكايتها، وهو اسم محكى فقد صير إِلى جعل المجموع اسماً بالحكاية فلتجعل كذلك بلا تقدير قول، وحاصله على كل حال أَن ما تقول لا يقوله إِلا مجنون فأَجابهم بما ذكر الله عنه فى قوله { قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ } على نفسى أَنى برىءٌ مما تشركون ولا شهادة أَعظم من إِشهاد الله الذى لا يكذبه مكذب ولا ينسى ولا يختلط عليه الأَمر { وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ } تنازعه أَشهد واشهدوا والأَصل أَشهد الله بها أَى ببراءَتى مما تشركون، واشهدوا أَنى برىءٌ مما تشركون أَى من إِشراككم أَو مما تشركونها أَو تشركونهم، وهم ينزلون الأَصنام منزلة العقلاءِ، والعطف على مدخول قال، لا على خبر أَن كأَنه قيل وقال اشهدوا أَنى برىءٌ إِلخ، ولو عطف على خبر أَن لم يجز لأَن "أَن" تؤكَد النسبة الخارجية ولا خارج للطلب بخلاف أُشهد الله فإِنه ولو جعلناه إِنشاءً لكنه من الإِنشاءِ الذى له خارج حالى مؤَكد، ولا تقدر أُشهد الله به برد الضمير إِلى قوله إِنى برىءٌ إِلخ. بقصد اللفظ لأَن المراد هنا المعنى، فإِن أُريد المعنى جاز، كما يقال أَعجبنى أَن تقيم ولا تقوله بالتاءِ مع أَن المراد الإِقامة، أَو قدر مصدر مذكر ولم يقل وأَشهدكم كالأَول لأَن العدو لا يستشهده أَحد فى مصالحه لأَنه لا يفى بالشهادة أَو ينكرها أَو لا يقبلها وإِنما المراد بشهادتكم عدم المبالاة بهم وإِشهاد الله تحقيق للأَمر وتأْكيد، فإِن إِشهاده كالقسم وهو متعارف، لا كما قيل أَنه غير متعارف، وليس فى الآية عطف الإِنشاءِ على الخبر، ولو قلنا، أَشهد الله غير إِنشاءِ لأَن الجمل المحكية مفردات ولا إِنشاءَ فى الحكاية بل الإِنشاءُ قبلها، وكأَنه قيل: قال هذه الأَلفاظ فلا حاجة إِلى تقدير وأَقول اشهدوا { فَكِيدُونِى } كلكم وشركاؤكم { جَمِيعاً } احتالوا فى إِهلاكى { ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ } لا تمهلونى بالضر، بل اعجلوا به. أَخبر الله سبحانه وتعالى عنه عليه السلام أَنه استعجل قومه وهم أَقوى البشر وكثيرون ليظهر لهم عجز أَنفسهم وعجز آلهتهم عن أَن تنصر نفسها وتدفع عن عابديها، فكيف يعبدونها، أَو الخطاب فى كيدونى ولا تنظرون لقومه خاصة فإِذا عجزوا فكيف تنتصر آلهتهم وهى جماد. وذلك إِما مدح لهم بأَنه أَظهر الإِيمان والاستيثاق بالله الراسخين، وإِما مدح له بأَنه عليه السلام تعرض لإِراقة دمه فى الله حُبًّا له وثقة به، ولو قيل آمن معه آربعة آلاف لأَنه برز بهذا اللفظ وحده ولا يمنعونه من ضر لو وقع به وأَيضاً قال هذا القول قبل أَن يكون معه هؤُلاءِ، ولما ذكر من الاستيثاق والثقة قال { إِنِّى تَوكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } تعليل جملى معنوى كأَنه قيل لا أُبالى بكيدهم ولا أَخافه لأَنى توكلت على الله، إلخ فإِنه مالكى ومالككم فلا تقدرون على مضرتى إِن لم يقدرها وإِنى واثق بمن هو كذلك سبحانه، واختار الماضى لأَنه أَدل على الإِنشاءِ فهو إِنشاءٌ للتوكل لا ينقطع، والإِخبار بالإِنشاء جائِز نحو زيد هل قام، وبرهن على ذلك بقوله ما من دابة إِلخ، وأَنتم من جملة الدواب فلا يفوته عقابكم على ظلمكم ولا تضرون ولا تنفعون إِلا بإِذنه عز وجل، وقدم ربى على ربكم لأَن المقام للمحافظة على نفسه وللنعى عليهم بأَن الرب واحد وهو مقر به، والمراد بالدابة هنا ما له روح وينتقل ولو طائِرا أَو حوتاً أُو ملكاً أَو جنا، والأَخذ بالناصية كناية عن التملك التام، شبه أَثر قدرته على كل شىءٍ وتصرفه له بتمكن الإِنسان من آخر بحيث لا يرده عما أَراد، وذلك استعارة تمثيلية، والناصية مقدم الرأْس جلد أَو مع شعر وإِطلاقه على الشعر خاصة مجاز، وقولهم تسمية للحال باسم المحل كأَنه صريح فى أَن الناصية موضوع لجلد مقدم الرأْس خاصة، وعلى ما ذكرت للبعض باسم الكل وياؤُه عن واو قلبت لكسر ما قبلها يقال نصوته بمعنى أَخذت بناصيته { إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } على الصواب والعدل لا يجوز بترك ظالم مصر بلا عقاب ونقص مظلوم حقه، كمن وقف على الطريق الجادة يمنع المارة من الفساد ويمنع عنهم الضر مثل إِن ربك لبالمرصاد، فذلك استعارة تمثيلية، وقيل المعنى إِن مصيركم إِليه تعالى للجزاءِ بالحق.