التفاسير

< >
عرض

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
-يوسف

تيسير التفسير

{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعامٌ } وقوله { تُرزَقَانِهِ } نعت طعام، وذلك طعام اليقظة أَو النوم، وتفسير ابن مسعود الطعام بالثريد تمثيل لأَنه يأْتِيهما ثريد وغيره، إِلآ إِن أَراد أَنه لا يأْتيكما طعام فى تلك الرؤيا كائِنا ما كان، ولو كان فى نفس الأَمر الثريد { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا } أَخبرتكما { بِتَأْوِيلهِِ } برده إِلى ما آل إِليه فى نفس الأَمر من قلة أَو كثرة وجودة ورداءَة، وكونه تمرا أَو خبرا مثلا وبطئا وعجلاً ونحو ذلك، وذلك استعارة من التأْويل الذى هو تفسير المشكل والجامع إِيضاح المبهم { قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } أَى قبل أَن يأْتيكما الطعام، أَو قبل أَن يأْتيكما تأْويله كما هو شأْن الأَنبياءِ والصالحين والراغبين فى الدعاءِ إِلى الذين يقدمون فى كلامهم تمهيدا لما يريدون من الإِرشاد إِليه كإِخبار الأَنبياءِ بالغيب ليتوصلوا به إِلى تصديق الناس، فيوسف عليه السلام أَراد أَن يرشدهما إِلى التوحيد والإِيمان من يموت منهما ومن يحيا فقال إِنى أَعرف بإِذن الله وإِعلامه ما يغيب فيستوثقان بتفسيره وبدعائِه إِلى الدين، وصف نفسه بذلك وبكونه ذرية أَنبياءٍ ليصل إِلى أَمر دينى لا رياءَ كما وصف نفسه بأَنه حفيظ عليم لذلك، وليصل إِلى نفع الخلق، وجائِز للإِنسان أَن يصف نفسه بما فيه من أَمر حسن لذلك كما يصف الطبيب نفسه فى الطب ليرغب فيه، وروى أَنهما قالا: من أَين لك هذا العلم ولست منجما أَو كاهنا، وقيل: قالا: إِنك كاهن أَو منجم، وعلى كل أَجابهما بقوله { ذَلِكُِمَا } ما ذكر من التنبئة بما يأْتيكما { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى } بالوحى أَو الإِلهام لا بكهانةٍ أَن تنجيم، وهذا كما قال عيسى عليه السلام: "وأَنبئكُم بما تأْكلون وما تدخرون فى بيوتكم" ذكر تعليم الله له تعريضا لهما بأَن يؤمنا بالله - عز وجل - وقوى هذا التعريض بقوله: { إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرةِ هُمْ } تأكيد للأَول { كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِى } المؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر { إِيْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيعْقُوبَ } وقوله: إِنى تركت إِلخ هو علة للتعليم أَى بما علمنيه ربى بوحى أَو إِلهام، وقد قيل: إِنه نبى من صغره حين يعقل، والمراد لأَنى تركت ملة من لا يؤمن بالله والبعث، واتبعت شرع آبائى الأَنبياءِ المرسلين فى سائِر أَمر الدين، وقيل: علة لمحذوف أَى علمنيه لأَنى تركت، وذكره ذلك أَولا قبل التفسير من شدة رغبته فى التوحيد وتوابعه حتى أَنه يريد أَن يموت الخباز موحدا، لما دخل السجن وجد قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم فجعل يسليهم ويقول: اصبروا وأَبشروا فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أَحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت؟ قال: أَنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إِسحاق بن خليل الله إِبراهيم فقال له صاحب السجن: يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأَرفق بك وأُحسن جوارك واختر أَى بيوت السجن أَحبت، ويروى أَنه لما رآه الفتيان قالا: إِنا أَحببناك منذ رأَيناك فقال: أَنشدكما بالله لا تحبانى فوالله ما أَحبنى عبد إِلآ دخل على من حبه بلاءٌ، لقد أَحبتنى عمتى فدخل على بلاءٌ، وأَحبنى أَبى فأَلقيت فى الجب وأَحبتنى امرأَة العزيز فحبست، ولما أَلقيا عليه الرؤيا أَخر تأْويلها لأَن فيها قتل أحدهما وصلبه وأَلهاه عنها بما هو أَهم وهو الإِيمان، ويأْتى أَن عمته أَسرقته شيئا من مالها لتملكه فى شرعهم، وكون إِسحاق هو الذبيح ليس بالصحيح ونسبته ليوسف لا تصح وكان آباؤه المذكورون مشهورين بالرسالة والخير والكرامة، ولذلك ذكرهم، وقد قيل إنه نَبىءَ فى السجن، ومعنى تركت ملة قوم؛ أَى أَعرضت عنها ولم أَدخلها قط، والمراد بالقوم المشركون مطلقا، أَو أَهل مصر، ولا عبرة بالإِيمان مع عبادة الصنم { مَا كَانَ لَنَا } معشر أَهل هذا البيت، أَو معشر الأَنبياءِ على أَنه نبى فى حينه أَو على التغليب، أَى لا يصدر منا الإِشراك لوجود عناية الله - عز وجل - بنا، ولو كان يصدر من السعداءِ غيرنا ويتوبون، أَو ما كان لنا معشر المكلفين؛ لكن فيه تفكيك الضمائِر لأَن الضمير فى علينا بعد لأَهل البيت، أَو للأَنبياءِ، وقد يجاب بأَن الناس بعد ذلك المؤمنون وذلك بعيد { أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ } صلة للتأْكيد فى النفى والعموم داخلة على المفعول به وهو قوله: { شَيءٍ } صنم أَو ملك أَو جنى، أَو شىءٍ بمعنى إِشراك مفعول مطلق والمفعول به محذوف أَى غير الله من جن أَو إِنس أَو ملك أَو صنم والمراد إِنا معشر الأَنبياء لا يصدر منا إِشراك كما يصدر من غيرنا، وليس المراد مطلق التحريم فإِنه محرم على كل أَحد { ذَلِكَ } التوحيد كما هو ظاهر، والعلم بتأْويل الرؤيا وغيرها فإِنه منفعة لهم والناس، ويبعد ما قيل أَن الإِشارة إِلى ما قصد من النبوة { مِنْ فضْلِ اللهِ علَيْنَا } جملة إِنعامه لأَن إِنعامه علينا به إِنعام على الناس بإِرشادنا إِياهم إِليه فيفوزون بالتوحيد وثمراته، وينجون من النار، والتوحيد حصل لنا ولغيرنا، ومن أَراد حصله بتفضل الله علينا بنصب الدلائِل، ويجوز أَن يراد بالناس الموحدون { وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } وهم المشركون لا يوحدون فإِن التوحيد نفسه شكر وداع إِلى سائر الشكر وموجب له، أَو لا يشكرون الإِنعام عليهم ببعث الأًنبياءِ المرشدين لهم إِلى مصالحهم دنيا وأُخرى، وأَعرضوا عن الدلائِل فلا يشكرون بل يكفرون، أَو هم يلغون الدلائِل فلا يعدونها نعمة لهم تشكر، وزعم بعض أَن المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أَعطانا عقولا فاستعملناها فى الدلائِل، وأَكثر الناس لا يشكرون لا يستعملونها فى الدلائِل، ومقتضى الظاهر ولكن أَكثرهم وأَظهر لزيادة البيان، قيل: ولئلا يتوهم رجوع الهاءِ إِلى مجموع الناس وإِلى ما عاد عليه ضمير علينا، وعلينا أًن نشكر الله على توفيقه إِيانا إِلى الإِيمان فإِلى قصدنا، وعلى خلقه الإِيمان منا وأَفعالنا خلق من الله، وذلك معنى الآية والله شكر إِيماننا بحسب قصدنا وكسبنا فأُولئك كان سعيهم مشكورا، أَعرض لهما بالإِيمان فى قوله: "لا يأْتيكما" إِلخ ثم قواه بقوله: "إِنى تركت ملة قومٍ" إلى "يشكرون" ثم دعاهما إِلى الإِيمان بقوله { يَا صاحِبَىِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواِحدُ القَهَّارُ ما تعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } حجة { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمرَ أَلاَّ تعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون } وَإِضافة صاحبى بمعنى فى، أَى يا من صحب كل منهما الآخر فى السجن، أَو يامن صحبانى فى السجن، أَو إِضافة لمفعول، أَى يا من صحبا السجن والتزماه، أَو إِضافة المفعول أَى يا ساكنى السجن، كأَصحاب الجنة وأَصحاب النار، واختار نداءَهما بذلك حثّاً على الإِقرار بالحق إِذ كانا فى شدة لا ينبغى أَن يزاغ عن الحق معها، وتفرق الأَرباب يعنى كون أَحدها من فضة وبعض من ذهب وبعض من حجر وبعض من خشب وبعض إِنسانا وبعض جنا وبعض ملكا وبعض بقرا، وغير ذلك، وهو أَولى من تفسير التفرق بالتعدد، والإِله الحق لا تعدد له فضلا عن التفرق، لا أَجزاءَ له ولا إِله معه، وهو القهار لكل ما يشاءُ وغيره مقهور بالانتقام والآفات والموت، وما تحصلتم إِلآ على أَسماءَ معانيها غير موجودة تقولون لشىءٍ أَنه رب وليس له معنى الربوبية، وإِله وليس له معنى الأُلوهية، وهكذا ما أَنزل الله حجة أَنها أَرباب بل كل جسم أَو عرض يشهد أَنها مربوبة مأْلوهة، ولا حكم لها من قضاءٍ وقدر، وإِيجاد وإِعدام، وحصر العبادة له هو الدين المستقيم، ولكن أَكثر الناس لا يعلمون، أَكثر أَهل الأَرض جهلة ومشركون لا يعلمون الثواب والعقاب لإِنكارهم البعث، فمن منكر ومن جاهل، ومن مقر غير عامل كأَنه منكر، أَولا يعلمون أَن ذلك هو الدين القيم، وقدر بعض: أَعبادة أَرباب، وعدم التقدير أَولى ليشمل اللفظ أَنواع المنافع ودفع المضار، كما يشمل العبادة ويناسب ذلك ذكر القهار وذكر الحكم، ولما فرغ من جرهما إِلى الإِسلام شرع فى تفسير رؤياهما فقال:
{ يَا صَاحِبىَ السِّجْنِ أَمَّا أَحدُكُمَا } وهو الساقى فيرجع إِلى منزلته من سقى الملك { فيَسْقَى رَبَّهُ } سيده الريان { خَمْراً } كعادته، قيل يخرج بعد ثلاثة أَيام بعدد العناقيد، وقدمه لأَنه خير يعجل فى التبشير به { وَأَمَّا الآخرْ } الخباز فيخرج بعد ثلاثة بعدد السلال { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } كما أَكلت من الخبز على رأْسه فى حلمه أَو تحلمه، هذا تأْويل رؤياكما، فقالا ما رأَينا شيئاً لكن تحلمنا تجريبا لك، وكذبا بل حلما، وقيل: صدقا فى أَنهما ما رأَيا حلماً ولكن تحلما { قُضِى الأَمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو مجموع الرؤيتين، والأَمر التعبير أَو ما أَتاهما به على حذف مضاف أَى عاقبة الأَمر، ويجوز أَن يراد مايؤُول إِليه أَمر الرؤْيتين أَو أَمر التعبير تقول: أَفتنى فى حكم تارك الصلاة بمعنى أَخبرنى بحكمه وذلكَ الأَمر قضاه الله بالوحى أَو بأَمر يثبته لى ضمن به التعبير أَو بحسب الاجتهاد كما فسرت لكما حلمتم أَو تحلمتما، دخل يوسف السجن نشر فيه علم تفسر الرؤْيا وعبرها ووصف نفسه بتعبيرها فقال أَحد الفتيين - وكأَن البلاءَ موكل بالمنطق - للآخر نجربه برؤيا نفتريها.. قاله ابن مسعود، وقال الشعبى: رأَيا فاهتما فقال ما شأْنكما؟ فقالا: إِنا غلامان للملك رأَينا رؤْيا فقال: قصاها على فقصاها فعبرها بما ذكر.