التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
-يوسف

تيسير التفسير

{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنفْسِى } من شأْن الملوك أَن يؤثروا أَنفسهم بما هو نفيس كأًرض فى الربيع زاهرة وجوهرة لا يوجد مثلها، ووزير عظيم الشأْن وعالم ماهر، فاختار يوسف مختصاً به لكماله صبراً وعلمً وإِحساناً وأَدباً وتعبيراً وورعاً، وهذا جواب لمحذوف أَى لما عبر الرؤيا قال: { ائتونى به أَستخلصه لنفسى } فيكون قال إِيتونى به مرتين، قال: أَولاً إِيتونى به لأَنه عبر الرؤيا، وقال ثانياً إِيتونى به أَختص به لأَمانته وفوائده، فعاد الرسول الأَول إِلى يوسف فى السجن بعد التعبير وهو فى السجن وقال: أَجب الملك فى الحين واطرح ثياب السجن والبس ثياباً حسنة جدداً، واغتسل، فقام وودع أهل السجن ودعا لهم ولأَهل السجن مطلقاً: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأَخبار، قيل: فمن ذلك يوجد فى السجن من الأخبار ما لا يوجد فى غيرها، ثم اغتسل وليس ثياباً حسنة، وكتب على باب السجن من خارج: هذا بيت البلوى، وقبر الأَحياءَ، وشماتة الأَعداءِ، وتجربة الأَصدقاءِ ودخل على الملك فكلمه وشاهد منه الملك الرشد { فَلَمَّا كَلَّمهُ } وشاهد منه ما يوجب الرغبة فيه، والضمير فى كلم ليوسف والهاءُ للملك، سلم عليه بالعربية فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمى إِِسماعيل، ودعا له بالعبرانية فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائى، وكان الملك يتكلم بسبعين لغة ولا يعرف العربية والعبرانية، وكلما كلمه بلسان أَجابه بما تكلم به وزاد بالعربية والعبرانية، فأعجبه أَمره مع صغر سنه ابن ثلاثين سنة فأَجلسه إِلى جنبه، وقيل: الضمير فى كلم للملك والهاءُ ليوسف؛ لأَن الملوك هي التي تبدأُ بالكلام، والصحيح ما تقدم، فإِنه عهد أَن يبدأَ الداخل بالسلام والثناءِ فكذا فعل يوسف، وقد روى أَنه لما أَراد الدخول قال: حسبى آخرتى من دنياى، وحسبى ربى من خلقه، عز جارك، وجل ثناؤُك، ولا إِله غيرك، ولما دخل على الملك قال: اللهم إِنى أَسأْلك من خيره وأَعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ولكن هذا قد يقوله سراً، أَو حيث لا يسمعه الملك، ويقدر فأَتوا به، ودخل على الملك فكلمه فلما كلمه، والحذف للدلالة على سرعة الإِتيان به، كأَنه اتصل بقوله: فلما كلمه، وروى أَنه قال له: أَحب أَيها الصديق أَن أَسمع تفسير رؤْياى من لسانك ففسرها كما ذكرها عنه الرسول بلا نقص ولا زيادة ولا تقديم ولا تأْخير، ولم يكن حاضراً مع النسوة فى المجلس، وزعم بعض أَنه حاضر، وأَن معنى إِيتونى به قربوه إِلى { قَالَ } الملك { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ } الظرفان متعلقان بمكين، والمراد باليوم عصرى { أَمِينٌ } ذو تمكن ورسوخ فى قلوبنا وملكنا، والجاه على أَموالنا وأَحوالنا من أُمور السلطنة والوزارة، وقيل: أَمين من كل مكروه لا تخاف مما مر عليك، فماذا ترى أَيها الصديق فى أَمر السبع الخصبة والسبع المجدبة؟ قيل: ابتلاهم الله بالسبع المجدبة لأَنه أَقام فى السجن سبعاً وهو مظلوم، فقال: أَجمع الطعام وأَكثر الحرث فى السنين المخصبة وأًخزن الحبوب للناس، والتبن والقصب أَيضاً للدواب، وتأْمر الناس أَن يرفعوا الخمس من زورعهم فيكفيك لأَهل مصر ومن حولها، ويأْتيك الناس من سائِر النواحى للميرة فيجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قط، ولو زرعت على حجر لأَنبت وأَثمر؛ وذلك من الله - عز وجل -، وروى أَنه لما قال: أُحب أَن أَسمع منك قال: رأَيت سبع بقرات سمان خرجن من النيل يقطرن لبناً ونظرت إِليهن معجباً فغار النيل فخرج من طينه سبع عجاف بأَنياب وأَضراس، وأَكف الكلاب وخراطيم السباع فأَكلن لحوم السمان ومخهن، وأَنت تنظر معجباً إِذا لم يسمن، ورأيت سبع سنابل خضراً وسبعاً يابسات فى منبت واحد ماءٍ، وترى وأَنت تتعجب فى اختلافهن مع اتحاد المنبت فهبت ريح أَضرمت اليابسات على الخضر فانبهت مذعوراً، فقال: والله ما أَخطأْت فيم رأَيت فى المنام، وما رؤْياى بأَعجب من علمك به، كأَنك الرائِى، ومن تفسيرها، ولما قال: اجمع الطعام فتأْتيك أَهل النواحى للميرة، قال: من لى بذلك الحرث والخزائِن وذلك التصرفات وأَهل مصر كلهم لو جمعتهم ما طاقوا ذلك، وليسوا مأْمونين على ذلك فمن يكفينى ذلك؟ فقال يوسف ما قال الله عز وجل عنه:
{ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ } خزائن الطعام والأَموال، خزائِن أَرض مصر التى تحت يدك، وقال الربيع بن أَنس: اجعلنى على خزائِن خراج مصر، فأَجلسه على السرير وفوض الأَمر إِليه، وذلك كله بعد عبر الرؤْيا، وزعم بعض أَنه قبل عبرها قيل جعله وزيراً، وقيل: أَسلم السلطنة إِليه، وروى أَنه توفى قطفير زوج زليخاءَ أَو راعيل فى تلك الليالى فجعله فى مرتبته فزوجه زليخاءَ أَو راعيل فوجدها عذراءَ، وكان قطفير عنينا فيما قيل، وولدت له إِفرايم وميشا والد رحمة زوجة أَيوب فى قول، ويقال: ميشا جد يوشع، وقيل: رحمة زوج أَيوب هى بنت يوسف، وقيل: لم يلد يوسف، وقيل: لم يلد نبياً، وتزوجها بلا عدة لجواز ذلك فى دين يوسف، والمشهور أَنه تزوجها بعد مدة طويلة، وبه قال القرطبى، وروى أَنه أَصابتها حاجة فقيل لها: لو أًتيت يوسف فقيل لها: لا تفعلى نخافه عليك قالت: لا أَخاف ممن خاف الله تعالى: فأْدخلت عليه وقالت: الحمد لله الذى جعل العبيد ملوكاً لطاعته، والملوك عبيداً بمعصيته، فقضى حاجتها، وتزوجها، ولما أَذاه قطفير وهو العزيز أَورثه منصبه وزوجه، وقيل: قالت له ذلك فى الطريق فعرفها وقضى لها وتزوجها وقيل: عزله وولى يوسف ولم يتزوجها إِلا بعد موته، وبحث فيه بأَن المؤْذى زوجه، قلت: كلاهما لأَن زوجها وافقها، ويقال: لما تنزه عن السوءِ أَنعم الله عليه بذلك { إِنِّى حَفِيظٌ } للخزائن من السنين المخصبة للمجدبة بحساب لا أَضيعها، ولا تضيع لمحافظتى عليها بإٍذن الله { عَلِيمٌ } بمصالحها وبالكتابة، وبوقت الجوع وبلغات من يأْتينى، وبأْمر الدين فقال له الملك: ومن أَحق بذلك منك فجعله عليها، وقد كان الملك يعرف عنه أَنه من أََهل دين الله ولكن لا يعرف أَنه من أَهل العلم بأْمر الدنيا أَيضاً فقال له يوسف: إِنى عارف بهما جميعاً، وإٍنما طلب الجعل على خزائن الأَرض ليقوم بمصالح العباد، وهذا الطلب واجب عليه لأَنه يجب على الأَنبياءِ القيام بمصالح الأُمم دينا ودنيا، ولولا ذلك الطلب لماتت أُمم بالجوع، ووصف نفسه بالحفظ والعلم ليتوصل إِلى مصالح العباد والقيام بالدين لا ترفعاً، ووصف النفس بذلك لغرض جائز شرعاً أَو واجب غير مكروه ولا محرم، بل هو من الشرع، ويجب حيث يجب فلا يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:
" لا تسأَل الإِمارة فإِنك إِن أُوتيتها عن مسأَلة وكلت إِليها، وإِن أُعطيتها عن غير مسأَلة أُعنت عليها" لأَن الحديث فى طلبها لغرض النفس من مال أَو فخر، وعن مجاهد: أَن الملك أَسلم على يد يوسف قبل هذا الطلب مع أَنا لا نسلم أَن طلب الولاية من مشرك أَو موحد جائز لإِقامة الدين أَو مصالح الخلق ممنوع، إِذا كان غرض الطالب ذلك، ولا يتبعه فى جوره أَو ديانته، وإِلا فحرام كبعض قضاة العصر يطلبونها أَو يقبلونها ويتبعون أَحكامهم، ويوفرون مصالحهم، ويقصدون جمع المال ويحكمون تارة بالجهل وتارة بالجور عمدا، قال ابن عباس رضى الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أَخى يوسف لو لم يقل اجعلنى على خزائِن الأَرْض لاستعمله من ساعته ولكنه أَخر ذلك سنة" رواه البغوى، ولا أَعرف أَنه صحيح { وَكذَلِكَ } أَى كما أَنجيناه من السجن، أَو كما مكناه من عبر الرؤْيا، أَو تأْكيدا لما بعده { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ } أَرض مصر وهى أَربعون فرسخا فى أَربعين فرسخاً، فأَل للعهد، والمراد مَكَّنَّا الأُمور أَو مكنا يوسف على زيادة اللام { يَتَبَوَّأُ } ينزل { مِنْهَا } أَى فى بعضها فمن تبعيضية أَو فيها، ويضعف أَن يكون المعنى يتخذ بعضها منزلا { حيْثُ } متعلق يتبوأُ، وزعم بعض أَنه مفعول لمكنا{ يَشَاءُ } أَى هو أًى يوسف وهو الظاهر، أَو الله على طريق الالتفات كما قرأَ نشاءُ بالنون وهى قراءَتنا عن نافع، وكما يناسبه قوله { نُصِيبُ } بالنون { بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ } فى الدنيا المؤْمن والكافر، وقيل المراد الكافر، والمراد التوسع، وإِلا فكل حى فى نعمة من الله، ولو فى أَضيق عيش قال الله - عز وجل - " { عجلنا له فيها ما نشاءُ لمن نريد } "[الإِسراء: 18] أَى توسع له وهو كافر، فالنعمة تصيب الكافر ولا يشكرها، ولا وجه لقولك لا نعمة على كافر إِلا معنى أَنه يزيد بها كفرا فينتقم منه { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فى الدنيا ولا فى الآخرة... وقد يوفر للمسحن للآخرة وليس تضييعاً، قال سفيان بن عيينة: المؤْمن يثاب على حسناته فى الدنيا والآخرة، والكافر يعجل له فى الدنيا وما له فى الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية، والحكم أَكثرى لا كلى، وفى الحديث: "أَشد البلاءِ على الأَنبياءِ ثم الأَمثل فالأَمثل" ، وأَيضاً فالمشيئة بالنسبة إِلى مجموع الدنيا والآخرة، أَعطاه الملك تاجه وسيفه وخاتمه وسريره الذى هو مذهب مكلل باليواقيت فى طول ثلاثين ذراعا وعرض عشرة، وثلاثين فراشاً وستين مأَدبة وحلة من إِستبرق فأَمره أَن يطلع السرير فخرج إِليه بالتاج وجهه كالقمر يرى فيه الوجه من صفائِه، ودانت له الملوك، وقيل: قال أَشد بالسرير ملكك، وأَدر أَمرك بالخاتم، فقال يوسف: لا أَقبل التاج، فليس من لباسى، ولا لباس آبائى، فقال الملك: تركته إِجلالا لك، ودخل يوسف على زليخاءَ أو راعيل ووجدها عذراءَ ناعمة، فقال لها: أَليس هذا الحال أَولى؟ فقالت: لا تلمنى أَيها الصديق فإِنى ناعمة وزوجى لا يشتهى النساءَ، وأَنت فى جمالك الفائق، وشهر أَنه تزوجها بعد عماها وكبرها، وفقرها، وكانت تتكفف فتعطى أَو تمنع، فقيل لها لو تعرضت ليوسف إِذا خرج، وكان يخرج فى مائة أَلف من عظماء قومه كل أسبوع، ففعلت، فقالت: سبحان من جعل العبيد ملوكاً بالطاعة، والملوك عبيداً بالمعصية، فقال: ما هذا؟ فعرفها، وبكى بكاء شديداً، وتزوجها وزفت إِليه، فصلت وراءَه، ودعا الله أَن يرد بصرها وشبابها وجمالها، وروى أَنه قال لها لما تعرضت له: هل بقى من حبك شىءٌ؟ فقالت: خذ طرف عكازى، فكان يندفع فى يده متصلا بصدرها وروى أَنه أَحبها أَضعاف حبها، فقال: ما شأْن حبك لى نقص؟ فقالت: لشغل قلبى بحب الله، وروى أَنها: كانت تصلى فجذبها فقد قميصها من دبر، فقال جبريل: قد انقد، واشتغل يوسف ببناء البيوت للطعام، ويقال: إِنه كان يعطى الملك وحاشيته مرة نصف النهار، وأَول من أَصاب الجوع الملك نصف الليل فنادى يا يوسف الجوع الجوع، فقال يوسف: هذا أَول وقت القحط، وكان يوسف لا يشبع فقيل له بيدك خزائن الطعام، فقال: أَخاف نسيان الجائِع إن شبعت، وأَمر أَن يطبخ للملك نصف النهار لئلا ينسى الملك من جاع فكانت عادة الملك الأَكل نصف النهار، وفى أًول المجدبة قال الله - عز وجل- لجبريل: أَلا ترى كيف يأْكل عبادى رزقى ويعبدون غيرى، اهبط عليهم بالجوع، فنادى ليلا: يا أَهل مصر جوعوا سبع سنين، فانتبهوا جائعين، قيل: فلا مطر ولا نبات ولا ريح ولا نهر يجرى ولا حمار ينهق، ولا ثور ينعق، ولا دابة تحمل ولا طائر يفرخ للضعف بالجوع، هلك فى الأُولى كل ما أَعدوه، وباع لهم بالنقود، وفى الثانية بالحلى والجواهر، وفى الثالثة بالدواب، وفى الرابعة بالعبيد والجوارى، وفى الخامسة بالضياع، وفى السادسة بأَولادهم، وفى السابعة برقابهم، فقال للملك: كيف رأَيت صنع الله ربنا فيما أًعطانى؟ فقال: للملك الرأْى ونحن تبع لك، فقال: أَشهد الله وأَشهدك أَنى أَعتقتهم ورددت لهم أَموالهم، وعند مجاهد: لم يزل يلطف بالملك حتى أَسلم وأَسلم معه كثير ومات فى حياة يوسف، ولم يثبت إِيمان العزيز، قيل: أَصاب القحط أَهل الدنيا، وقيل مصر والشام وكنعان.