التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

تيسير التفسير

{ سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ } سبحان اسم مصدر سبح بشد الباء، فهو بمعنى التسبيح نائب عن فعل الأمر، أى سبِّحوا الذى أسرى بعهده، أناب سبحان عن تسبيح، وأضيف للاسم الذى ينصب بسبحوا، وهكذا سبحان فى جميع القرآن، أمر بالتسبيح تنزيها عن صفة مخلوق مطلقا أو تنزيها بالصلاة، وما ذكرته فى التوحيد بالحجة مخالفا لهذا كلام نقلته بلا تأمل.
كما أن بعضا قال: التقدير أُسبح إليه بصيغة المضارع، يقوله الله عن نفسه، وهو الذى ذكرته فى التوحيد بالحجة، وهو فى الكرخى، ونسبه للنحويين وجدت منه نسخة قديمة له أو قوبلت على خطه إلا أنه يحتمل أن يكون المراد أن يقول كل أحد عن نفسه: أسبِّح الله، ويقدر الماضى إِذا عطف بعده تعالى كما يجئ بعد فى هذه السورة.
وأجاز بعض أن يكون سبحان مصدر سبح بلا تشديد، بمعنى بعد عن صفة السوء كغفران، وليس قياسا كما قيل، وشهر أن سبحان عَلَم للتسبيح، وأسرى لازم كسَرَى وهو أبلغ من سرى، وتعديته بتأويل أسرى ملائكته بعبده تكلف، وإنما تعدى بالباء أى صيَّر عبده ساريًا.
وقال: بعبده لأن العبودية لله أشرف المقامات، وكان صلى الله عليه وسلم راغبًا فى اسم العبودية لله، وكان يقول:
"أشرف الأسماء ما تعبد به" ، أى ذكر فيه عبد، كعبد الله، وعبد العزيز، وعبد القادر، ولو قال بحبيبه أو نحوه لكان أقرب إلى أن تطريه الأمة كما أطرت النصارى المسيح وقالوا: إنه إِله أو إِنه ابن الله، وقد نهانا أن نطريه كما أطرت النصارى المسيح.
{ لَيْلاً }بعد صلاة العشاء أى فى ليل عظيم لا فيه كله، ولا فى نهار، ويجوز أن يكون ليلاً اسمًا لجزء منه، وبعض ليل ليل، كما أن بعض السوق سوق، وذلك حقيقة لا مجاز كما قيل: إن قصة الإسراء أربع ساعات أو ثلاث أو ساعة، وقيل: أن يسكن غصن شجرة صادمة أول الإسراء فتحرك قبل أن يبرد فراشه من سخونة الاضطجاع عليه، وهذا التعبيض بأنواعه حكمة ذكر الليل، مع أن لفظ الإسراء يدل عليه، وقد يجوز التجريد، بأن جرد عن بعض معناه، فكان بمعنى السير مطلقًا فقيّد بالليل، وما قدم أحق لزيادة الفائدة.
{ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بعد أن أسرت به الملائكة جبريل وميكائيل وغيرهما، من بيت أم هانئ بنت عمه، إِلى الحجر، ثم منه إلى زمزم، وشقوا بلا ألم ولا دم قلبه، وغسلوه ثلاثًا، وعاد كما كان، وأسروا به منه، هذا إلى من دعوى أن المراد بالمسجد الحرام مكة، فيشمل بيتها، والمسجد الحرام وهو يومئذ المطاف فقط، وحوله دور الناس وبيوتهم، ومن شاء شرع باب مسكنه فى المطاف، وأول من زاد فى المسجد عمر، وأتبعه غيره يشترون الدور ويدخلونها فى المسجد بلا رجوع فيها ولا شرط، وأما المطاف فمن الله لم يجر ملك أحد عليه.
{ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } القصى أى البعيد عن مكة، قيل: لأنه أبعد المساجد التى تزار من المسجد الحرام، وقيل: لأنه ليس بعده موضع عبادة، فهو أبعد مواضعها، وقيل: بعيد للزائرين، وقيل: المراد بعده عن الأقذار والخبائث وهو ضعيف لا دليل عليه، والظاهر أنه بُعد حسى، وأَنه هو خارج عن التفضيل، ولا خلاف أنه هو بيت المقدس، بنته الملائكة بعدما بنوا الكعبة بأربعين عاما، وبينه وبين مكة مسيرة ثلاثين يومًا وأكثر إِلى أربعين، وقيل: بنَى آدم بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين عامًا، ويسمى بيت المقدس أى الطهر لأنه لم يعبد فيه، ولا حوله صنم، ولم يُبْنَ مسجد قبله فى الأرض.
{ الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالثمار والأشدار والأنهار، وبأنه مقر الأنبياء، ومتعبّدهم ومهبط الملائكة والوحى، وقِبلة الأنبياء، ومحشر الخلق، وقد وصف الله الكعبة بالبركة إذ قال:
" { إنَّ أول بيت وضع } "[آل عمران: 96] إلخ، وبركتها أعظم من بركة بيت المقدس بأضعاف كم فى آثار منها: أن الحسنة فى مكة بمائة ألف، وفى المدينة بعشرة آلاف، وفى بيت المقدس بألف، وروى عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الدجال لا يدخل مسجد مكة ومسجد المدينة وبيت المقدس والطور" وأول مسجد وضع المسجد الحرام، ثم بيت المقدس، بينهما أربعون عاما.
{ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } دلائل وجودنا وقدرتنا وحكمتنا، ومن للتبعيض، وهذا البعض الذى أراه الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أعظم من الملكوت الذى أَراه إِبراهيم عليهما السلام، فإِنه رأى العرش والكرسى، والجنة والنار، وغيرهما مما لم ير إِبراهيم، ورأى فى كل سماء نبيا، ورأى خلقًا كالرجال راكبين على خيل بلق شاكى السلاح، يتبع بعض بعضًا طول كل واحد وطول فرسه ألف عام لا يرى آخرهم ولا أولهم، فسأَل جبريل عليه السلام فقال ذلك قوله عز وجل:
" { وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو } " [المدثر: 31].
وهكذا رآهم إذا هبطت وإِذا صعدت لا أدرى من أين يجيئون، ولا إِلى أين يذهبون، وصلى فى كل سماء ركعتين الأولى بـ
" { قل يا أيها الكافرون } " [الكافرون: 1] والثانية بـ " { قل هو الله أحد } " [الإخلاص: 1] وصلى بالأنبياء وهم سبعة صفوف، ثلاثة صفوف مرسلون وذلك بأرواحهم وأجسامهم وقيل: بأرواحهم، وصلت معهم الملائكة وذلك قبل العروج على ما صح بعض، وقيل: بعده، وأسرى به إلى بيت المقدس لينال فضله كما قال: فضل المسجد الحرام، وينال فضل المدينة، ولأن باب السماء فوق بيت المقدس، ينزل معه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن زار بيت المقدس، ولأن الشام أرض المحشر، ولتتشرف به أرض المحشر، وفى لفظ: سبحان تنزيه وتعجيب، وكذا فيما بعده إلى هنا تعجيب.
وأتمه بقوله: { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } العليم بالأقوال والأصوات، { الْبَصِيرُ } العليم بالألوان والأعراض والأطوال، والغلظ والرقة والقصر، والحركات والسكنات، وبالاعتقاد، فهو يقرب سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم درجات، ويكرمه، وقيل: سميع لقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بصير بأفعاله، وذلك يتضمن التهديد لمن ينكر إسراءه من الكفار، وكان الإسراء إلى أرض المحشر ليطأها بقدمه للبركة على أمته إذا كانوا فيها، وليصلى خلقه فيها الأنبياء كلهم والملائكة، قيل: وروح كل مؤمن، والإسراء بجسده وروحه على الصحيح، لأنه أعظم فى الكرامة، ولو كان بروحه أو فى المنام لم يعتجب الكفار ذلك التعجب المفرط، ولم ينكروه ذلك الإنكار الكلى حتى ارتد بعض من آمن.
نعم قيل سرى بروحه فى النوم قبل ذلك بسنتين، ثم سرى بجسده، ولم ير الله ولم يكن شئ مما يخالف صفات الله جل وعلا، سرى بدابة بيضاء تسمى البراق لصفائها أو سرعتها كالبرق، ليست بذكر ولا أنثى، وفى العبارة تذكر لمعنى الحيوان مثلا، وتؤنث لمعنى الدابة وهو من الجنة، سرى به من مكة إلى بيت المقدس، ومنه إلى كل سماء عروج، فذلك سبع، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى الكرسى، والعاشر إلى العرش، حمل من الحِجر بين النوم واليقظة، فما استوى على البراق إلا استيقظ أو ذلك بعد ما صلى العشاء، وذلك قبل الهجرة بسنة.
ولما كذبوه أخبرهم بصفة بيت المقدس وأبوابه بعد أن مثل له عند دار عقيل، إذ لم يراع وصفه حين كان فيه، وبصفة البعير الذى يقدم أَولا، والبعير الذى نفر فانكسر، وشربه ماء القدح، وصدق أبو بكر أول ما قيل له: إنه كان فى بيت المقدس، وقال: إن قال فقد صدق، وإنا لنصدقه فى خبر السماء من العرش بلحظة، فقيل سمى صديقًا لذلك.
وقد قالت المهندسون: الشمس تساوى الأرض مائة ونيفًا وستين مقر، ومع ذلك نشاهد طلوعها بسرعة فى زمان لطيف، فكيف يستبعد الإسراء، وذكر بعض أن الإسراء فى ليلة والعروج فى ليلة، وبعض أن الإسراء فى اليقظة والعروج فى النوم، وبعض أن الإسراء وقع مرتين مرة بروحه، ومرة بجسده فى يقظة، وبعض أن الإسراء أربع مرات.
والحق أنه مرة فى اليقظة يتصل به العروج فى ليلة واحدة، وقصتها طويلة بسطتها فى شرح القصيدة النونية:

تيمم نجداً فى تلهفه الجانى يؤم رسول الله للإنس والجان

وفى هميان الزاد.