التفاسير

< >
عرض

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
٧٧
أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً
٧٨
-الإسراء

تيسير التفسير

{ سًنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا } أى تذكَّر سنَّة، أو لا تنس سنَّة فإنها تصيبهم على إخراجك، أو اتبع سنَّة، أو سن لله سنَّة، أو سننا سنَّة، أو كسنَّة، ولسنة إهلاك كل قوم أخرجوا أنبيائهم من بين أظهرهم مرتين، ولو يتسبب فى خروجه، أو إِخراج من بعضهم وتسبب لإخراج من بعض، والسنة لله، وأضيفت للرسل أو لأممهم على تقدير سنة أمم من قد أرسلنا، لأنها لأجلهم.
وقيل: اتبع سنة من قد أرسلنا كقوله سبحانه:
" { فبهداهم } "[الأنعام: 90] لا تغير ولو اشتد الأمر وما تقدم أولى وهو أنسب بقوله:
{ وَلاَ تَجِدُ لسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } تغييراً أو تبديلا، فلو أخرجوك لم يلبثوا خلفك إلا قليلا كما هو عادتنا مع من قبلهم، والمراد بنفى وجود التحويل نفى حصول التحويل، ولما ذكر يوم الشدة والحساب بقوله عز وجل:
" { يوم ندعو } " [الإسراء: 71] إلخ، وذكر شدة عداوتهم وكيدهم بقوله عز وجل: " { وإن كادوا ليستفزونك } " [الإسراء: 76] إلخ أمره بالتقوى على ذلك، والتخلص من سوئه بإقامة الصلاة التى هى أفضل العبادة، فقال:
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } كقوله تعالى:
" { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } " [طه: 130] إلخ وقوله: " { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } " [الحجر: 98] ودلوكها ودلوك القمر والنجم ميلهن عن وسط السماء فى جميع الفصول، وهو زوالهن عنه كما قال صلى الله عليه وسلم: "أتانى جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بى الظهر" .
قال جابر بن عبد الله: طعم عندى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين دلكت الشمس، وهذا هو الصحيح وعليه الجمهور. وروى عن علىّ وجماعة من الصحابة، أن الدلوك الغروب، والشمس تدلك من الأفق الظاهر إلى الأفق الباطن، ومادة دلك، وما أوله دال فلام بمعنى الانتقال كدلج مشى مقارب الخطو، لثقل الحمل، ودلج بمعنى مشى أراق المائع بإيقاف، ودله الرجل: تحيَّر أو ذهب عقله من الهوى، ودله لسانه: خرج، دمه: أخره، ودلف الشيخ: قارب الخُطى، ودلق الرجل: أراق المائع بالقاف، ودله الرجل: تحيَّر أو ذهب عقله من الهوى، ودلهه: حيَّره وذلك بدنه أو ثوبه مثلا فى الغسل: حكة، وذلك الناظر للشمس عينه ليقوى على شعاعها.
وقد قيل سمى دلوك الشمس لهذا، فأضيف إِليها لأنها السبب واللام بمعنى من الابتدائية، فشمل اربع صلوات يؤدى كلا فى وقتها، وغسق الليل شدة ظلمته لا خمساً كما قيل، لأن الفجر فى غير وقت شدتها، واذكره فى قوله: { وقرآن الفجر } وإن سلمنا أن وقته غسق لبقاء ظلمة الليل معه، لم يتم لأنه يجوز فى أسفار، بل ندب لحديث:
"أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" ولو دخلنا أوله، وأطلنا إِلى إسفاره، وإن حملنا الدلوك على الغروب شمل المغرب والعشاء فقط، وقيل والفجر كما مرّ آنفاً، والغاية داخلة على ذلك كله.
وقيل اللام للتوقيت، بمعنى بعد، فشمل الظهر والعصر فقط، وكذا إن قلنا بمعنى فى، وبيَّن الشرع وقت كل منهما ترجيحاً، وأباح دخول إحداهما فى وقت الأخرى فنقول: غسق الليل أول ظلمته، وهو آخر وقت العصر، ولو لم يدخل وقت المغرب، فلم نذكر المغرب والعشاء، فى الآية وقيل: إن المراد الغروب فقط، وإن غسق الليل غيوب الشفق الأبيض فى مواضع غيبوبته، وهو آخر الوقت.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه جمع بين الظهر والعصر نهاراً، وبين المغرب والعشاء ليلاً فى الحضر بلا غيم ومطر ولا خوف، وذلك لنعلم باشتراك الظهر والعصر من أول الظهر إلى قدر ما تدركان فيه من آخر وقت العصر، وذلك تسهيل، وقال وكثر إيقاع كل فى وقتها لئلا نكثر فعل ذلك، وكذا المغرب إلى أن يبقى من آخر وقت العشاء ما تدركان فيه مع الوتر، فالجمع فيما ذكر جائز لمن لا يتخذه عادة، وجاء الحديث: "إن الشفق الأحمر" واختاروا أنه موقوف على ابن عمر، وفسره بعض بالأبيض فلا يصلى العشاء حتى يغيب، والأحمر خبران.
{ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } شدة ظلمته، وهو وقت العشاء حين تظهر النجوم الصغار، متعلق بأقم، أو بحال من الصلاة محذوفة جوازاً لا وجوبا لكونها كونا خاصا أى ممدودة إِلى غسق الليل، وأصل الغسق السيلان كأن الظلمة تنصب على العالم.
{ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } صلاة الفجر، سميت باسم جزئها الأعظم، وهو القرآن ولا يدفع وجوب القراءة فى الصلاة إلا جاهل، ولا يدفع كونها ركنا فى الصلاة إلا مقلد، ولا مانع من نفس تفسير قرآن الفجر بما يقرأ فى صلاة الفجر، وينبغى الدخول فيها أول ما ينتشر كما فعل صلى الله عليه وسلم بالإغلاس، وإطالة القراءة إلى الإسفار، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" فيجتمع ملائكة الليل بالإغلاس وملائكة النهار بالإسفار، وليس كل يوم بغلس حتى تخرج النساء، ولا يعرفن، بل يفعل تارة وغيره أخرى، لئلا يدوم على حال فيتوهم أنها واجبة.
ومن شاء أَيضاً أسفر بحيث لا يخاف الطلوع ولو بلا إغلاس بنية ثواب الإسفار والعطف على الصلاة، فلا حاجة إِلى تقدير أقم كما سميت ركومًا لأنه أول ما يبدو للناظر منها، وسميت سجوداً لأنه أشد خضوعًا وظهوراً، ولا حاجة إلى تقدير الزم، أو عليك لإغناء أقم، ولضم الفاعل لا يعمل محذوفًا.
{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } إن صلاة الفجر تشهدها الملائكة، وجاز التذكير مع أن معناه صلاة مراعاة لفظه تقول: جاء إنسان بالتذكير مع أنه امرأة.
ويجوز جاءت، ويقال: ملائكة الليل وملائكة النهار، يجتمعون فى صلاة الصبح، خلف الإمام، وكذا خلف الفرد فإذا سلم المصلى عرجت ملائكة الليل، وقالت: يا رب تركنا عبادك وقد صلوا، وإذا صعدت ملائكة النهار قالوا كذلك، وأعم من هذا ما شهر أنهم كلهم يقولون: آتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون إِلا أن هذا قبل الفراغ، ويقول الله عز وجل فى ذلك كله: اشهدوا أنى قد غفرت لهم، والحديث جاء بذلك، ولا حاجة إِلى ما قيل تشهده شواهد القدرة، من تبدل الظلمة بالضياء، والنوم المشابه للموت بالانتباه.
وكذلك المصلى يشاهد ذلك، ويخرج من ظلمة المعصية والغفلة بضوء الصلاة كضوء الفجر، وكالخروج من العدم إلى الوجود، ولا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، ولا يجوز تفسير القرآن بمثل ذلك، أو يشهده كثير من المصلين عادة كذا قيل، أو من شأنه يشهده الكثير.
وفى الوجهين إغراء بصلاة الجماعة كما استدل بعض على وجوب القراءة فى صلاة الفجر بهذه الآية، ويقاس عليها سائر الصلوات، سواء فى الاستدلال فسرنا قرآن بظاهره أو بالقراءة، وخص بعضهم الاستدلال بما إذا فسر بالقراءة، وأخطأ من لم يوجبها فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب" أى فى كل ركعة، ويزاد غيرها فى محله، وخص صلاة الفجر لحضور القلب فيها لاستراحته بنوم الليل وللتمهيد لها بقيام الليل، وينعكس نور كل قلب إلى الآخر من قلوب الحاضرين بأشعة أنوار معرفة الله عز وجل كالمرآة المقابلة، وكل يوم تشهده ملائكة غير الملائكة الآخرين، أو ملائكة مخصوصة ترجع قولان.