التفاسير

< >
عرض

يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
٧
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً
٨
-مريم

تيسير التفسير

{ يا زكرياء إنَّا نبشِّرك } أى قال الله، أو قيل لزكرياء: يا زكرياء إنا نبشرك، وذلك بواسطة ملك كما فى آية أخرى، أو بإلقاء كلام فى سمعه، يخلقه فيه، أو حيث شاء فيسمعه، وهذا جواب ندائه وإجابة دعائه، وما فى الوعد من التراخى لا ينافى التعقيب، فإن التعقيب بحسب ما تعورف، وناسب المقام، كما يقال: تزوج فلان فولد له، أو نقول الفاء فى مثل ذلك للسببية دون التعقيب، وذلك أن الله تعالى قال: " { فاستجبنا له } " [الأنبياء: 88] وللتأخير قال: بوعد واستجابة فى قوله: "نبشرك" ولم يقل أعطينا، بل الوعد استجابة متصلة، فهو تعقيب متصل، والمشهور أن هذا القول إثر الدعاء، ولم يكن البشارة والولادة إلا أشهر، وقيل: رزق الولد بعد دعائه بأربعين عاماً، وقيل بسنتين، وأكد الوعد بذكر اسم الولد، وبأنه لم يسم به أحد قبله كما قال:
{ لمْ نَجْعل له من قَبل سَمياً } مماثلا لاسمه، واسم امرأة إبراهيم يسارت، وسماها جبريل سارت، وهى تسمع، فسألت إبراهيم عليه السلام، فسأل جبريل فقال: نقلت الياء إلى ولد من ذريتها اسمه حيا، ولعله تكتب الملائكة اسمه حيا إذا عنى له ذكر قبل وجوده، أو كتب فى اللوح، أو عنى لهم ذكره، وكذا هى، وبعد ذلك كانت تذكر بسارة، وتكتب وحيا بيحيى كذلك، وقيل لم نجعل له مماثلا فى اجتناب المعصية، والروايتان عن ابن عباس قائلها: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"إن يحيى لم يفعل خطيئة ولا هم بها" وكان ابن آدم هم بها أو فعلها.
أو مماثلا فى أنه من امرأة عجوز عاقر، وشيخ فان، وهو لفظ عجمى وافق العربية، وقيل عربى فهو من جملة غرابة شأنه فإنه يسر من عادتهم التسمية بالألفاظ العربية، وعليه فهو تفاؤل بحياة طويلة أو حياة حتى يرث أباه، ويبنى على العربية ما قيل سمى لأنه يحيى بالحكمة والعفة. وما قيل إنه سمى لأنه حيى به رحم أمه، وما قيل لأنه حيى بين عجوز عاقر، وشيخ فان، وما قيل لأنه يحيى بإرشاد الخلق، وما قيل يموت شهيداً، أو الشهداء أحياء، ولا يخفى أنه من رغب فى شىء ولا سيما الشىء الغريب، ووعد به يتشوف إلى معرفة شأنه. وكيفية حصوله. ولا سيما حضور الموانع، ولذلك قال مع علمه بوعد الله له مع علمه بفنائه. وكبر زوجه. وعقرها ما ذكر الله عنه فى قوله:
{ قَال ربِّ أَنَّى يكون لى غلامٌ وكانَت امرأتى عاقراً. وقد بلغتُ مِنَ الكِبَرِ عتيّاً } ولا يتبادر ما قيل إنه جواب سؤال، كأنه قيل فماذا قال عليه السلام، ولا يخفى أنه قال بنفسه، والله عالم بقوله، ولا حاجة إلى توسط ملك يرسله إلى الله، اللهم إلا على سبيل تفخيم الأمر، لكن مثل هذا يحتاج إلى نقل أو حجة، ومعنى: { أنَّى يكون } كيف يكون، أو من أين يكون، أو متى يكون، وقوله: { كانت امرأتى عاقراً } حال من ياء لى على تقدير قد، لأن الماضى المثبت المتصرف، إذا كان من جملة الحال لا بد من قرنه بالواو، وجملة قد بلغت من الكبر عتياً طف على الجملة الحالية، والعتى يبس المفاصل، وأصله عتوى، اجتمتعت الواو والياء، وسكنت الأولى فقلبت الواو ياء، وأدغمت وقلبت الضمة كسرة، وعقر امرأته من شبابها وشبابه إلى الآن، فكيف تلد وحالها ذلك، مع بلوغها ثمانياً وتسعين، وأنا أكبر منها سنا، ومن للتعليل متعلق ببلغت أو للابتداء فيما قيل إنه ابتدأه، العتى من كبره، لأن هذا راجح إلى التعليل، وقيل للتبعيض متعلقة بمحذوف حال من عتياً.
وفيه أن العتى ليس بعض الكبر، بل يكون به، وفى آل عمران بلغنى الكبر، وهنا بلغت من الكبر عتياً، وما بلغك من المعانى فقد بلغته إلا أن المسند إليه هنا المتكلم، وهناك الكبر.
ولعله دعا أولا فقال: بلغنى الكبر أى أدركنى المانع من الولادة، وهو الكبر تشبيهاً بالإنسان الذى يتبع الآخر ليمنعه مما أراد فأدركه، ودعا بعد ما زاد كبراً بأنه كالإنسان الفار حتى حبسه من قدامه حابس لتابعه، أو دعاء واحد فى وقت واحد، ذكره الله وعز جل بالمعنيين فى الموضعين، وبدأ هنا بحال المرأة، وهنالك بحاله وأخر منا ذكره كبره المبالغ أقصى مراتب الكبر، عن ذكر عتمها، لأنه ذكر حلاله من وهن عظمته واشتياقه إلى الولد، فما ذكر الكبر هنا إلا تتمة لما سبق، وتوسط ذكر عقمها، وأما هنالك فلم يتقدم لحاله ذكر، فذكر حاله قبل حالها، لأن ذكر قصور شأنه عن الولادة أهم بذكر قصور شأنها أو تخالف ذلك التفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر، وعرف من نفسه أنه لم يكن عاقراً، أو عرفه الله ذلك، ولذلك لم يذكر العقم، بل الكبر.