التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٣١
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٢٣٢
-البقرة

تيسير التفسير

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } مطلقا { فَبَلَغْنَ } سمى مقاربة الأجل بلوغا للجوار أو للمشارفة، أو لتسبب المقاربة للوقوع، وتبعد الاستعارة تشبيها للدانى بالواقع، وكأنه قيل قاربن { أَجَلَهُنَّ } الأجل مطلق اللحظة التى تلى المدة، أو اللحظة الأخيرة من المدة، أو نفس المدة، والمراد هنا آخر العدة بقدر ما يراجع، بدليل قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بالمراجعة { بِمَعْرُوفٍ } من الحقوق بلا ضرر، وذلك تسمية للجزاء باسم الكل، أو يقد مضاف، أى آخر الأجل، وظاهر بعض أن الأجل بمعنى آخر المدة حقيقة أيضا، والأولى أنه مجاز للمشارفة أو استعارة، تشبيها لقريب الوقوع بالواقع { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } دعوهن بلا مراجعة فيخرجن عنهم، ويتزوجنهم برضاهن أو غيرهم، كأنه قيل، ابقوهن على حكم التطليق الواقع حتى يفتن، وإذا جازت المراجعة فى آخر المدة فأولى أن تجوز قبل الأخير فلم يذكر ذلك للعلم به، ولأن الذى يفلعونه هو الرجعة آخر العدة ضرارا { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ } بالمراجعة { ضِرَاراً } أى ضرا، أو سمى فعلها الذى كان سببا لضره ضرا للمشاكلة على عموم المجاز، فصحت المفاعلة فتدخل من لم تضره بالأولى { لِّتَعْتَدُواْ } عليهن بإطالة الحبس، أو بالإلجاء بذلك إلى الفداء، كما فعل ذلك ثابت بن يسار، كلما بقى يومان أو ثلاثة راجعها فطلقها حتى مضت لها تسعة أشهر، ونزلت الأية فيه على ما روى عن السدى، ولتعتدوا بدل من ضراراً، أو علة للعلة والمعلول معا، ويتعين هذا الوجه إذا جعلنا ضراراً بمعنى مضارين، أو ذوى ضراء، أو ضراراً عاقبة ولتعتدوا علة فيتعلقان معاً بلا تمسكوهن، والمعنى لضرار، وفى جمعها تأكيد كما فى الجمع بين قوله عز وجل، فأمسكوهن، ولا تمسكوهن ألا ترى أن الأمر بالشىء نهى عن ضده الذى لا ضد له إلا هو، ولكن الأمر لا يعم الأوقات، والنهى للتكرير، وقيل: الضرار تطويل المدة، والاعتداء الإلجاء { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } الإمساك المؤدى للضرار { فَقَدْ ظَلَمَ نفْسَهُ } بتعريضها للعقاب المترتب عليه بالضرار، كان الرجل يطلق زوجته حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ليطيل عدتها لأنها تعتد بالأخير { وَلاَ تَتَّخِذُوآْ ءَايَٰتِ اللهِ هُزُواً } مهزوءاً بها، أو ذات هزء بألا تعملوا بها، وبأن تراجعوا بلا رغبة بل لإضرار، وبأن ينكح ويطلق ويعتق، ثم يقول، أنا ألعب، ونزلت الآية لذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح والعتاق والطلاق" ، ولفظ أبى الدرداء ثلاث، اللاعب فيهن كالجاد، النكاح والطلاق والعتاق، ولفظ أبى هريرة: ثلاث هزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة، كل ذلك مرفوع، وعن عمر عنه صلى الله عليه وسلم، "أربع مغفلات، النذر والطلاق والعتق والنكاح" { وَاذْكُرُواْ } بالشكر والقيام بحق النعمة { نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ } كالهداية ورسالة النبى صلى الله عليه وسلم { وَمَآ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَٰبِ } القرآن { وَالْحِكْمَةِ } عطف خاص على عام. والحكمة القرآن، أى الجامع بين أنه قرآن وحكمة، أو هى القرآن والسنة، أو السنة، كما قال الشافعى معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له، كما قال ابن وهب عن مالك، والفصل بين الحق والباطل، كما قيل، والإصابة فى القول والعمل كما قيل، والموعظة كما قال مقاتل، أعنى، أن الآية لجميع ذلك، وأصل الحكمة الرد وتلك المعانى ترد عن الجهل والخطأ { يَعِظُكُمْ بِهِ } يوصيكم ترغيباً وترهيباً { وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ } فهو لا يأمر إلا بما هو حكمة ويجازيكم على الموافقة والمخالفة فيما مضى من الأحكام وغيرها كالعضل فى قوله تعالى:
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } أى أيها الأزواج { النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } اللحظة بعد تمام العدة، أى انقضت عدتهن { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } لا تمنعوهن أيها الأولياء، وفى الآية جواز تعدد المخاطب، بأن يخاطب ببعض الكلام غير المخاطب ببعضه الآخر فالحق الجواز إذا بان المراد، كما جاء فى غيره هذه الآية الخطاب بالكاف للنبى صلى الله عليه وسلم، وبالكاف والميم للأمة { أَن يَنْكِحْنَ } يتزوجن { أَزْوَٰجَهُنَّ } أى من كانوا أزواجاً لهن، فذلك من مجاز الكون.
طلق عاصم بن عدى زوجه جُمْل، وقيل جميل بالتصغير، وأراد تزوجها بعد انقضاء العدة ورضيت ورضى أخوها معقبل بن يسار فزوجه بها ثانياً، ثم طلقها ثانياً، وطلبها ابن عم له بعد العدة للتزوج، ومنعها أخوها معقل بن يسار، وهو ابن عم عاصم أيضاً، وحلف ألا يزوجها أبداً لأحد، فنزلت الآية فزوجها بابن عمه الآخر، فكفر يمينه.
وروى البخارى وأبو داود والنسائى والحاكم وابن ماجه والترمذى عن معقل بن يسار، كانت لى أخت فأتانى ابن عم لى فأنكحتها إياه، فكانت، عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة، فهوتها وهويَتْه، ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يالكع، أكرمتك بها وزوجتكها، وطلقت ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، وعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه فأنزل هذه الآية، قال: ففىَّ نزلت، فكفرت عن يمينى، وأنكحتها إياه، وفى لفظ، فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربى وطاعة، ثم دعاه، فقال: أزوجها وأكرمها.
وقيل: الخطاب فى تعضلوهن للأَزواج المطلقين لهن، فيكون المراد بالأزواج فى قوله: أن ينكحن أزواجهن، من أردن أن يكون بعد العدة زوجا غير الأول وسمى غير الزوج زوجا لأن حبهن لأن يكون زوجا لهن سبب لتزوجهن به فكأنه من مجاز الأول، ومن لم يشترط فى مجاز الأول التحقق ولا الرجحان، بل مطلق الإمكان فظاهر أنه منه، وكان أهل الجاهلية يمنعون من طلقوهن أن يتزوجن غيرهم، ترفعا أن يطأها غيره، وقيل: الخطاب فى تعضلوهن من للأَولياء والأزواج، أى لا يمنعهن الأزواج المطلقون عن تزوج أزواج آخرين، ولا الأولياء، عن تزوج المطلقين لهن، وقيل الخطاب للناس كلهم، أى لا يكون فيكم عضل بمنع ولا برضاء به عن المطلقين ولا عن غيرهم، فيكون عموم المجاز، ويجوز كون الخطاب أيضا فى طلقتم للأَولياء والأزواج من عموم المجاز، لأن الأولياء سبب لأنهم يعرضون لتخليص وليتهم من الأزواج إذًا { تَرَٰضَوْا بَيْنَهُمْ } أى الأزواج والنساء، رضى كل منهم الآخر، وإذا عائد إلى ينكحن، وإن جعلنا عائداً إلى تعضلوهن فلأن التراضى معتاد، لا لتجويز العضل إذا لم يتراضوا { بِالْمَعْرُوفِ } اللائق شرعا وعادة ومروة { ذَٰلِكَ } المذكور من أحكام الطلاق والإيلاء واليمين، أو ما فى السورة، أو النهى عن العضل، وإفراد الخطاب للعموم البدلى، أوله صلى الله عليه وسلم، أو تأويل الفريق الأزواج أو الأولياء، ولا يصح ما قيل إن الكاف لمجرد الخطاب، إذ لا خطاب بلا مخاطب، بفتح الطاء { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } هذا بإعادة كاف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:
" { يَٰأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } " [الطلاق: 1] فى تشخيصه من عموم لا أن نداءه وخطابه كندائهم وخطابهم، وفى أن الكلام معه والحكم يعمهم، ولأنه الأشد إتقاناً للأَمر المنزل من الله عز وجل، وخص من يؤمن لأنه المتعظ، والحكم يعم، أو معنى يوعظ يجعل الوعظ مؤثراً فيه، وقس على هذا فى كل ما أمكن ولو لم أذكره، بأن تحمل الفعل على تأثيره مثل قوله تعالى: " { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } " [يس: 11] أى يؤثر إنذارك فى من اتبع الذكر { ذَٰلِكُمْ } أى ترك العضل أو العمل بمقتضى الوعظ { أَزْكَى } أنفع، فهو من نحو الخير وزيادته { لَكُمْ وَأَطْهَرُ } لكم من دنس الآثام والفتنة والخصام والريبة، وهما من زكى طهر بتحقيقهما، ولا داعى إلى جعلها من المشدد بحذف الزائد وأفعل خارج عن التفضيل، أو يعتبر ما يتوهم فى غير ما وعظوا به من زكاة وطهر { وَاللهُ يَعْلَمُ } مصالحكم الدنيوية والأخروية كلها { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك إلا قليلا، فاستزيدوا من الله العلم والعمل.