التفاسير

< >
عرض

وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٢٥
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
-البقرة

تيسير التفسير

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } بالله، وبأن القرآن منه، عز وجل، أخبرهم إخبارا يظهر الفرح بها على أبشارهم، أى جلودهم، والتبشير أخص من الإخبار، لأنه أولا بالخير، والإخبار أولا وغير أول، وبالخير وغيره { وَعَمِلُوا الصَّٰلِحَٰتِ } من الفرائض ولا بد، أو مع النقل إن كان، ومن العمل الصالح ترك المعاصى، لأن تركها جبذ النفس عنها، وهو عمل إن قارن جبذها عمل الجارحة، وذلك الترك تقوى، ومن التقوى أداء الفرض، وأل فى الصالحات للجنس فتصدق بعملين، وبعمل واحد فى شأن من لم يدرك من حين كلف إلا ذلك، كمن بلغ ومات عن قريب، أو أسلم كذلك، أو مات قبل نزول سائر الفرائض، ومن عمل قليلاً فجنّ، ولا يخفى أنه من مات قبل أن يعمل شيئاً ما من الأعمال لسرعة موته أو نحوه يدخل الجنة { أَنَّ لَهُمْ } أى بأن لهم، أو ضمن بشر معنى الإِعلام { جَنَّٰتٍ } حدائق، فيها كل صنف من الثمار حت ما لا يؤكل، كالحنظل يحلوفيها، وفيها مساكن وقصور { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا } تحت أشجارها ومساكنها، والجنة الأرض كما رأيت، بتقدير مضاف، وإن شئت فلا تقدر، بل اردد الضمير إلى الأرض، والمراد به الأشجار استخداما، وإن أريد الأرض والشجر فالضمير عائد إليها باعتبار جزئها، أو تحتها جانبها { الأَنْهَٰرُ } تنبع من تحتها، ولم تجىء من محل آخر، أو جاءت من بحر غائرة فى الأرض حتى إذا وصلت الجنات نبعث ظاهرة، وجرت على وجه الأرض فى غير أخدود، وحصباؤها درّ وياقوت، أو بعض تجرى من بعيد تحتها، وبعض تنبع تحتها، والنهر والبحر أرض، وذلك لأن الماء ينهره، أى يوسعه، والجرى للماء، وأسند لمحله، والنهر مجمع الماء الذى يجرى الماء منه إلى غيره، وإن قلنا النهر الماء الجارى فى متسع فلا مجاز، وأل للحقيقة، أو للعهد فى قوله، فيها أنهار، أو نابت عن الضمير { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا } من الجنات { مِنْ ثَمَرَةٍ } حال من قوله { رِّزْقاً } أى شيئاً مرزوقاً، ورزقاً مفعول ثان، ومن للبيان، أى رزقا هو ثمرة لا بدل بعض، لأدائه، إلى حذف الرابط ولإفرادها، ولا يرزق من الثمرة، ولأدائه إلى استعمال النكرة فى الإثبات للعموم الشمولى مع وجود التخلص من ذلك، ولا بدل اشتمال، لأن الثمرة بعض الجنة، لا شىء غيرها ملابس لها، ولأدائه إلى استعمال النكرة فى الإثبات للشمول، ولو قيل به فى علمت نفس، والثمرة الإفراد أو الأنواع، وما مصدرية، وكل ظرف لإضافته للمصدر النائب عن الزمان، أى كل رزق منها، بفتح الراء على المعنى المصدرى، متعلق بقوله { قَالُوا } أى يقولون كل وقت رزق منها { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } فى الدنيا أوفى الآخرة، ولا يزالون يقوولون هذا الذى.. إلخ، أى مثل الذى رزقناه من قبله، فى ظنهم بحسب اللون والصورة، وإذا أكلوه وجدوا طعمه غير طعم الأول وأحلى، وكل طعام أفضل مما قبله أبدا، فإذا رزقوا الرزق الأول فى الجنة قالوا، هذا الذى رزقنا به فى الدنيا، وإذا رزقوا ثانيا قالوا، هذا الذى رزقناه فى الجنة قبل، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وقيل، ذلك كله فى الآخرة لم يدخل فيه ما فى الدنيا، ولا دليل على أن المراد بالذى رزقنا من قبل هو الأعمال الصالحة فى الدنيا، تسمية للسبب باسم المسبب { وَأُتُوْا بِهِ } أى أتاهم الملائكة به، أو الولدان كقوله تعالى { { يَطُوفُ عَلَيهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون... } [الواقعة: 17] إلخ أو تارة الملائكة، وتارة الولدان { مُتَشَٰبِهاً } يشبه بعضه بعضا لونا، ويختلف طعما، أخبرنا الله يتشابه اللون تلذيذا لنا بغرابة تشابه اللون واختلاف الطعم، وذلك مدح للجنة، أو متشابها لونا وطعما، إلا أن الطعم متفاوت، فضلا، قال الحسن: إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول، هذا الذى رزقنا من قبل، فتقول الملائكة، اللون واحد والطعم مختلف، وعنه صلى الله عليه وسلم، "والذى نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمر ليأكلها، فما هى واصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها" ، فيجوز أن يحمل التشابه، وهذا الذى رزقنا من قبل على هذا { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ } حور عين وآدميات أفضل منهن، وللجن جنيات وحور، والجمع للقلة، والمراد الكثرة، وقيل لغة تميم، وكثير من قيس، قال الفرزدق:

وَإِنَّ الَّذِى يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِى كَسَاعٍ إِلَى أُسْدٍ الشَّرَى يَسْتَمِيلُهَا

{ مُّطَهَّرَةٌ } منزهلة عن أن يكون فيهن الحيض أو شعر الإبط، أو شعر العانة أو نتن أو بلل مستقذر، أو بول، أو غائط، أو سوء خلق، كما هم طهروا كذلك والمطهر لهن الله تعالى، وليس ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز، إذ كان التطهير فى الآدميات والجنيات إذهاب نحو الحيض منهن بعد إذ كان، أو تأهلهن له ولم يكن، وفى الحور من أول الأمر، لأن المراد تحصيلهن طواهر هكذا، وليس فى ذكر الزوجات ما يدل على الولادة فى الجنة، فقيل: لا ولادة فيها، وهو المشهور، وقيل بها { وَهُمْ فيها خَٰلِدُونَ } لا يخرجون ولا يموتون، ولا نزول بعض حواسهم وأجسادهم، ولا بعض قواهم، ولا تصيبهم آفة، ولا تفنى الجنة والنار وأهلهما، كما زعمت الجهمية، قبحهم الله عز وجل، لأنه ليس فى دوامهما اشتراك مع الله فيه، لأن دوامه غير دوامهم، فإنه بالذات، ودوامهم بإدامته، وأنفاس أهلهما مع دوامهما معلومة له، بل قيل، يقال، إن معلوماته محصورة عنده مع أنها لا تنقضى، وذلك من كمال قدرته ومخالفته للخلق، فلا يلزم الجهل له تعالى بدوام أنفاس أهلها، والنصوص دلت على ذلك، ولو كان لأهل الجنة فناء لاغتمّوا ولم تتخلص لذاتهم، ولفرح أهل النار، وليس لهم فرح. روى عن ابن عباس وابن مسعود.
أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذى ذكر الله فيه رعد وبرق وصواعق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق جعلا أصابعهما فى أذانهما من الفرَق أن تدخل الصواعق فى مسامعهما، فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا إلى ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا ولزما مكانهما، فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتى محمداً فنضع أيدينا فى يده، فأتياه مكانهما، فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتى محمداً فنضع أيدينا فى يده، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما فى يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن الرجلين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة.
وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبى صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم فى أذانهم فرَقا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، أن ينزل فيهم شىء، أو يذكروا بشىء فيقتلوا، كما يجعل الرجلان أيديهما فى أذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، إذا كثرت أموالهم، وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه، وقالوا، إن دين محمد صدق، واستقاموا، كما يمشى الرجلان فى البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا لدين محمد وكفروا، كما يمسك الرجلان من المشى إذا زال البرق، قيل: لما مثل الله حال المنافقين بالذى استوقد نارا، وبالصيب من السماء المنافقون، الله أجل وأعلى من أن يضر هذه الأمثال، فأنزل الله عز وجل:
{ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاَ مَّا بَعُوضَةً } ما نعت لمثلا ولو كان جامداً، لأن معناه حقير أو كائن ما كان، وهو مشهور، بذلك مستعمل فيه كثيراً بخلاف بعوضة فلا يكون نعتاً لأنه جامد، ولو قصد به الوصف، لأنه لم يشهر، أو لم يرد، لا يقال، جاء رجل بعوضة، بل بعوضة مفعول أول ليضرب، ومثلاً مفعول ثان له، لأنه بمعنى صيّر، وإن عدّى لواحد، فمثلا مفعول وبعوضة بدل أو مفعول، ومثلا حال { فَمَا فَوْقَهَا } إلى قوله هم الخاسرون للدنيا وأهلها، فإن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا امتلأت ماتت، ومن امتلأ من الدنيا هلك أو لأعمال العباد يجازى على القليل منها، والصحيح ما ذكر عن ابن عباس، رضى الله عنهما، أنه ذكر الله سبحانه أصنام المشركين، فقال
{ { وَإِن يَسلبهم الذباب شيئاً } [الحج: 73] وذكر كيدها، وجعله كبيت العنكبوت، فقالوا، كيف ينزل الله ذكر الذباب والعنكبوت فنزلت الآية { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِى } وعن الحسن، لما نزلت { { يَٰأَيها الناس ضرب مثل } [الحج: 73] قال المشركون: ما هذا من الأمثال، فنزل، إن الله لا يستحيى وفيه أن ذكر المشركون لا يلائم كون الآية مدنية، ويجاب، بأنهم منافقون فى المدينة، يقولون ذلك فيما بينهم، وهم مشركون فى قلوبهم، وعن ابن عباس، لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت قيل، ومستوقد النار، قال اليهود: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة فنزل، إن الله لا يستحيى... إلخ، أى لا يترك، لقول اليهود والمشركين تصير البعوضة فما فوقها فى الصغر كجناحها مثلا، أو فى الكبر كائناً من كان، ويصير المثل شيئاً ما بعوضة فما فوقها، وإذا ضرب ما زاد على البعوضة فى الصغر فأولى أن يضربه بما فوقها فى الكبر كالذباب والعنكبوت، والحياء إنكسار وانقباض عن عيب، والله منزه عن ذلك، فيحمل فى حقه على لازم ذلك، وهو الترك فالاستحياء من الله التركن تعبير باللازم، لأن حقيقته ينزه الله عنها، وهى انكسار يعترى لإنسان لخوفه من أن يعاب بما فعل، أو أراد فعله، وهو مشتق من معنى الحياة، لأنه يؤثر فى القوة، ولا يحسن أن يبقى على ظاهره، ويوكل أمره إلى الله عز وجل، وقد ألهمنا تأويلا صحيحاً بلا تكلف، ولا أن يقال، هو بظاهره بلا كيف، لأنه كفر، والخجل حيرة النفس لشدة الحياء وقيل قبل الفعل، والخجل بعده { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } أى المثل هذا أولى، لأنه أقرب. أو الضرب لأنه مصدر لفعل مقرون بأن، وليس من باب اعدلوا هو أقرب، ويبعد عوده لترك الاستحياء، وأبعد منه عوده للقرآن { الْحَقُّ } الثابت أو خلاف الباطل حال كونه { مِنْ رَّبِّهِمْ } أو الحق الصادر من ربهم { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } يهود وغيرهم { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً } من حيث التمثيل إنكاراً أو تعجباً من صحته مثلاً وهذا برهان على أنهم لا يعلمون، إذ لا يقوله من يعلم فهو أبلغ من قولك وأما الذين كفروا فلا يعلمونه حقّاً، وأجابهم الله عز وجل، ونصب مثلا على التمييز كما رأيت من اسم الإشارة، لجواز تمييزه وتمييز الضمير إذا كانا مبهمين، أو حال منه { يُضِلُّ بِهِ } بالمثل { كَثِيراً } من الناس، يصيرهم ضالين لكفرهم به { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } لتصديقهم، فإن التصديق هداية من الله عز وجل { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَٰسِقِينَ } من سبق القضاء عليه بأنه يموت على فسقه، الذى هو شرك، ومن لم يؤمن به وسيؤمن فإن إنكاره فسق يتوب منه، والسعيد فى حال فسقه فاسق عند الله عز وجل بما فعل لكنه فى ولاية الله عز وجل بما علم أنه يتوب، فهو فاسق فى الحال يفعله، ومسلم فى الأزل وما بعده لسعادته، وليس المراد أنه مسلم كافر عند الله باعتبار واحد، ولا أنه اجتمع فيه إيمان وكفر فى حال واحد، ولا تقدر أن تقول هو فى حال فعله للكبيرة أن فعله هذا مباح، ولا أنه طاعة، ولا غير ذنب ولا غير فسق، ولا غير كفر، وكل خروج عن الشىء فهو فسق إلا أنه لا يطلق حيث يوهم، والهداية والإضلال يتجددان ويزدادان، فإن شئت فقل: يزيد به هدى وإضلالا، وقدمه، لأن الكلام فى الرد على الضالين، وقولهم، ماذا أراد الله ناشىء عن الضلال، وما فى القرآن سبب له، ولذلك أكده بقوله، وما يضل به إلا الفاسقين، فيكون بدأ به وختم به.