التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٨٠
لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
-آل عمران

تيسير التفسير

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ } بحقوق ما آتاهم الله من المال إياه، كزكاة، وضيافة وجبت، ونفقة عيال، ولو حيوانا، ونفقة أولياء لزمت، ونفقت جهاد تعينت، لفقد مال بيت المال وفراغه ونفقة المضطر، وقد صرح العلماء بأنه يجب على المؤمنين جمع ما يحتاج إليه بيت المال من أموالهم والذين فاعل يحسب المفعول الأول محذوف ألا لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله بخلهم { هُوَ } أى البخل المفهوم من يبخل ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وهو بين معرفة تحقيقاً، وهى بخلهم المقدر، ومعرفة حكماء وهو اسم التفضيل الذى هو مفعول ثان فى قوله { خَيْراً لَّهُمْ } إذ كان لا يقبل التأنيث والتثنية والجمع حال تجريده من أل والإضافة إلى معرفة، ولهم نعت خيراً أو متعلق به، وإن لم تجعل خيراً اسم تفضيل بل بمعنى نفع لم يكن هو ضمير فصل، بل يكون توكيداً للهاء فى فضله ويجوز هذا، ولو جعلنا خيراً اسم تفضيل، وقد تحصل أن المفعول الأول محذوف، أى بخلهم لجوازه حذفه بلا شرط إذا علم، وخيراً مفعول ثان { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } اسم تفضيل أى بمعنى ضر، ومن سوئه تطويقه المذكورة بقوله { سَيُطَوَّقُونَ } وهو كالتعليل لما قبله { مَا } مفعول ثان، والأول نائب الفاعل، وهوالواو { بَخِلُوا بِهِ } من المال { يَوْمَ القِيَامَةِ } يصيرهم الله يوم القيامة متطوقين فى أعناقهم ما بخلوا به فيطوقهم دائرة فى أعناقهم، يلزمهم وبال ما بخلو به، كلزوم الطوق فى العنق، وهو طوق الحمامة ونحوها، مما فى عنقه فقط مستدير، ويكون أيضاً على الحقيقة كما بين بعض الطوق فى قوله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثلّ له شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، اى شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: ولا يحسبن الذين" الآية، رواه البخارى عن أبى هريرة، وعنه صلى الله عليه وسلم: "ما من ذى رحم يأتيه ذو رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه" ، ثم قرأ الآية، وأخرج عبد الرزاق عن النخعى أنه يجعل ما بخلوا بخ طوقاً من النار فى أعناقهم، والمشهور أن الآية فى الزكاة، وقيل ليس المراد حقيقة التطويق بل إلزام الوبال، وقيل المراد تكليفهم أن يأتوا يوم القيامة بالمال الذى بخلوا به، وأخرج الطبرى وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها فى أهل الكتاب، كتموا رسالته صلى الله عليه وسلم التى فى التوراة، وفضل الله التوراة، وتطويقهم إلزام وبال ذلك لهم، أو تطويقهم بطوق من نار جزاء على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم "من كتم علماً آتاه الله إياه ألجمه بلجام من نار" ، ويروى، "إلا مثلِّ له يوم القيامة شجاعاً أقرع يفر عنه وهو يتبعه حتى يطوقه فى عنقه" ، وفى رواية "يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدميه وتنقر رأسه، وتقول: أنا مالك، والزبيبة نكتة فوق عينيه أو جانب فيه أو زبد شدة وغضب فى جانب شفتيه" ، والأقرع زائل الشعر، وهو هنا من شدة السم وبسط ذلك فى تفسير الحديث والفروع، وليس فى ذكر ذلك فى الحديث ما يحصر الطوق فى ذلك بل الحديث ذكر لبعض ما تضمنته الآية، من لزوم الوبال على العموم، بحيث يعم التطويق المذكور فى الحديث، والتطويق بالنار وغير ذلك وغير الزكاة أيضاً { وَلِلهِ مِيراثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ذواتهما مع ما فيهما، ويفنى الملاك، ولا يبقى مالك إلا الله، والميراث الإرث، أو المراد ما يتوارث أهلها من مال وعز، وإمارة وصحة، وسائر ما ينتقل كالأحوال قى مراتب الملائكة والإرسالات، ولا مانع من أن يكون لأهل السماوات أحوال كما سقطت منزلة هاروت وماروت فيما قيل، وملك سقط ريشه لعقاب فشفع فيه نبى، شبه بقاء السماوات والأرض وما فيهما لله بعد فناء أهلهما بالإرث، إلا أن الله جل وعلا ملكهما قبل فناء أهلهما وبعده، وإذا كان ذلك فكيف تبخلون بما ينزع عنكم بموت كل واحد لأجله، وبموت الخلق كلهم وتبقى عليكم حسرته والعقاب عليه { واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من منع مطلقاً، أو عن أهله، وإعطاء لغير أهله أو بلا قصد تقرباً إلى الله { خَيرٌ } فيجازيكم، ولما نزل قوله تعالى: " { من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً } " [البقرة: 245] وكتب صلى الله عليه وسلم مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى يهود بنى قينقاع، يدعوهم إلى الإسلام، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، وقال فنحاص بن عازوراء من علماء اليهود، لذلك إن الله فقير حتى استقرض، ولطمه أبو بكر بقوله وقال: لولا العهد بيننا وبينكم لضربت عنقك، وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد فنزل قوله تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } تصديقاً للصديق، إنشاء اليمين بحسب قصد المتكلم، وإما الإخبار بواقعة، فأما باللفظ الذى لفظ به، ومنه ليبينه للناس، وإما بالغيبة تخبر عن شىء كان، نحو استحلفته ليقومن، وإما بلفظ التكلم نحو استحلفته لأقومن، وروى أن أبا بكر رضى الله عنه، دخل مدارس اليهود، فوجد ناساً كثيراً من اليهود، فقال: يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فو الله لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم بالحق من الله، تجدونه مكتوباً عندكم فى التوراة، فآمن، وصدق، وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال يا أبا بكر: تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا على أن يعطى قرضه إيانا مع الفضل والربا، فغضب أبو بكر رضى الله عنه، وضرب وجهه ضربة شديدة فشكا إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حملك يا أبا بكر على هذا قال إنه قال كذا وكذا، وجحد فنحاص، فنزل لقد سمع الله الخ، ونزل فى أبى بكر وضربه لفنحاص، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب الخ، يعنى أن محمداً غير صارق فى ذلك، فهو غير نبى، لأن الله لا يفتقر ولا يحتاج ولا يفعل الربا وهو حرام، وليس ذلك احتياجا من الله تعالى، ولا ربا، وبل جزاء من الجنة على العمل، أو قال ذلك، لعنه الله، عبثا وعناداً واستهزاء { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } نأمر الملائكة تكتبه فى ديون الناس كلهم، بعد ما كتبوه، لكل قائل فى ديوانه الخاص، أو نأمرهم فينسخونه من اللوح المحفوظ على طبق ما كتبوه أولا، أو تزيد له حفظا أو نجازيهم عليه، فظهر الاستقبال { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَآءِ بِغَيْرِ حَقٍّ } رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء، عارفين أنه غير حق، وفجرهم بهم، أنزل هذا مع قولهم وكتابته إشارة إلى أنه من عادتهم الفجور، وأنه ليس قولهم بأول جرم، وكيف لا يقوله من اجترأ على قتل الأنبياء، وقد علم أنه غير حق { وَنَقُولُ } تهكما بهم واستهزاء وإهانة وتحقيرا، تقول ملائكتنا يوم القيامة أو الإسناد مجاز عقلى لأن الله يأمر الملائكة بالقول { ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ } الذوق إدراك وصف الطعام أو الشراب، وتوسع فيه باستعماله فى إدراك الحال مطلقا، وإشارة إلى أن ما يصيبهم من العذاب أولا كالذوق بالنسبة إلى ما يتجدد به منه، والحريق الاحتراق أو الجسم المحرق، وهو النار، على أن الحريق بمعنى الإحراق أو متعمد أو هو ذو حريق أى يحصل به الاحتراق ويقال لهم بعد دخولها.