التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢٧
-آل عمران

تيسير التفسير

{ قُلِ اللَّهُمَّ } منادى، والميم عوض عن أصل حروف النداء، وهو يا، ولكونه حرفين ياء وألف شددت الميم فتكون حرفين، وخصت الميم لشبهها بالواو التى هى حرف علة كثرت زيادتها، وتكون مع الألف حرف نداء فى الندبة، وقلت فى غيرها، ولأنها أخت الياء التى هى بعض يا { مَالِكَ المُلْكِ } كله، يتصرف فى الأشياء بما يشاء، إيجاد وإعداما، وإماتة وإحياء، وتعذيبا وإثابة، وتنبئة وإرسالا، وغير ذلك، على الإطلاق بلا مشاركة، وزعم بعض أنه النبوة، وقيل، المال والعبيد، وقيل، الدنيا والآخرة، وقيل، المعنى مالك الملوك ووراثهم، كما جاء، "أنا الله مالك الملوك، ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدى، فإن العباد أطاعونى جعلهم عليهم رحمة، وإن هم عصونى جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن توبوا إلىّ أعطفهم عليكم" ، ونصب مالك على النداء، وقيل على التقية لله، إذ محله النصب، وهو قول المبرد والزجاج ويبحث فيه بأن اتصال الميم به شبهه باسم الصوت واسم الفعل، وخالف سائر المركبات التى تنعت كسيبويه فإن حرف البناء فيه قبل الميم وهو الهاء المضمومة، وضمة النداء تشبه حركة الإعراب، قيل، ولو نعت لكان بعد النعت، لأنها عوض حرف النداء، وهو لا يكون وسطاً { تُؤْتِى المُلْكَ } المعهود فى الأذهان، وهو بعض الملك العام، أو تؤتى الملك العام المذكور، أو العام المذكور، أى بعضه { مَن تَشَآء } من عبادك { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ } المعهود في الأذهان، أو العام المذكور، أى بعضه { مِمَّن تَشَآءُ } منهم، قال البيهقى وابن جرير "إنه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون ظهرت فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فجاء، فأخذ المعول منه، فضربها ضربة صدعتها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم، فكبر وكبر معه المسلمون، فقال: أضاءت لى منها قصور الحيرة، كأنها أنياب الكلاب، أى بياضا وصفرة، وانضماما وتمايزا بشرافات، ثم ضرب الثانية فقال، أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم، لأنها بالآجرّ، ولقدمها، ثم ضرب الثالثة، فقال أضاءت لى منها قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل بأن أمتى ظاهرة عليها كلها فأبشروا" ، فقال الكافرون: ألا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخيركم أنه يرى من يثرب قصور الحيرة وأنها تفتح لكم، وإنما تحفرون الخندق من الخوف، فنزلت الآية: قل اللهم مالك الملك، وبسطت الحديث فى شرح النونية:

تيمم نجدا فى تلهفه الجانى يؤم رسول الله للإنس والجان

ولما فتح مكة ذكر أنه سيفتح الله الروم والفرس له، فقال بعض المنافقين: يكفيه مكة والمدينة، وأما فارس والروم فهم أبعد شىء أن ينالهما فقيل: نزلت الآية فى هذا متأخرة عن زمان الحفر، والخندق معرّب كُندة، قيل وأنياب الكلاب ذم لهم وإهانة لما لهم، والمراد بالكافرين المنافقون بإضمار الشرك كما صرح فى رواية بالمنافقين، والمراد بالنزع ترك الإعطاء من أول، كقولك: ضيق فم البئر، أى احفره ضيقا، أو مطلق الترك فيشمل النزع بعد الإعطاء وعدم الإعطاء من أول فهو من عموم المجاز، أو على ظاهره،على أن الملك الثانى النبوة، والرسالة بعض الملك العام، أو معهود ذهنا، والثالث عهد الثانى، أى تنزع النبوة والرسالة من بنى إسرائيل، وتؤتاها العرب، ولا ضعف فى وصف هذا بالنزع والنقل، بل جاء مثله فى أحاديث، أو أريد الترك من أول، نعم إطلاق الملك على النبوة مجاز يجتاج لقرينة تخصها لكن قد فسر بذلك قوله تعالى: { { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } [النساء: 54]، والنزع بالموت و الجنون والمرض، وإزالة إبراهيم الكتاب والحواس وتلف الأموال، وقوة النزاع، ومن المسلم للكافر، ومن الكفر للمسلم، ومن كافر لكافر، ومسلم لمسلم، ومن عادل لجائر أو عادل، أو منه لعادل أو جائر { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بإيتاء الملك كالنبى والمؤمنين { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بنزعة، كفارس والروم والمشركين من العرب وغيرهم، واليهود والنصارى بالقتل والجزية أو تعز من تشاء فى الدنيا بالنصر والتوفيق، أو بهما فى الدنيا والآخرة، وتذل من تشاء فيهما بعدم النصر أو بعدم التوفيق، أو بهما أو تعز من تشاء فى الدنيا أو الآخرة، أو فيهما، وتذل من تشاء كذلك { بِيَدِكَ الخَيْرُ } والشر، دنيا وأخرى، وخص الخير بالذكر لأنه مرغوب فيه وأنسب بما نزلت فيه الآية من ملك الحيرة والروم واليمن، ولأنه مقضى بالذات والشر بالعرض، ولأنه أنسب بالخطاب المراد به الجلب باللين { إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } ومن قدرته ما فى قوله تعالى:
{ تُولِجُ } تدخل { الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } بإدخال ما ينقص من أحدهما فى الآخر، ولا حصر فى الآية، فلا يشكل يوم الاستواء وليلته، ولا استياؤهما دائما عند خط الاستواء، والمعتبر الغالب، وقيل الإيلاج تعقيب كل بالآخر، والقادر على ذلك قادر على أن ينزع الملك من الأقوياء الكثيرين عددا ومالا وبدنا كالروم وفارس، ويعطيه الأفلاّء الضعفاء فى ذلك، وقدم الليل لتقدم الظلمة على النور { وَتُخْرِجُ } أى تنشىء { الْحَىِّ } كالإنسان ونحوه، والطائر ونحوه، والحوت { مِنَ المَيِّتِ } كالنطفة لسائر الدواب والإنسان، وكالبيضة للطائر والحية ونحوهما، وكالماء للحوت والجراد الخارج من البحر، أو تنشىء الحى وتميته { وَتُخْرِجُ المَيْتَ } كالنطفة والبيضة { مِنَ الْحَىِّ } أو تخرج المسلم من الكافر، والكافر من المسلم، فالإسلام كالروح، والكفر كسلب الروح، قال الله جل وعز:
" { أو من كان ميتاً فأحييناه } " [الأَنعام: 122] وهو حق، إى أن الآية سيقت للإستدلال، والكافر لا يعتبر بهذا، أو كل ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز، أو حملا على عموم المجاز، فتخرج النطفة من الحيوان، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والذكى من البليد، والبليد من الذكى "لما خلق الله آدم أخرج ذريته، فقبض قبضة فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة فقال: هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلطهم أهل الجنة وأهل النار، فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، فذلك قوله تعالى: وتخرج الحى من الميت" ألخ رواه ابن مرويه عن سلمان مرفوعا { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } أى رزقاً واسعاً، فى الدنيا والآخرة، أو فيهما، أو بغير استحقاق وبلا بتعة. وقد يكون التوسيع فى الدنيا استدراجا، وكثيراً مايوسع على الأبله والمجنون والطفل، ويضيق على الحادق المحتال.

لو كان بالحيل الكثيرُ وجدتنى بأجل أسباب السماء تعلقى
لكن من رزق الحجا حرم الغنى ضدان مفترقان أى تفرق
ومن الدليل من القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

روى الديلمى "أنه قال على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر الله تعالى أن تنزل فاتحة الكتاب وآية الكرسى، وشهد الله، وقل اللهم مالك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وقلن: يا رب، بهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك، فقال الله تعالى: وعزتى وجلالى، لا يقرؤكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، أى بتوفيقه للتوبة، وإلا نظرت إليه بعينى المكنونة فى كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له فى كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وإلا أعذته من عدوه بنصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" . قال معاذ بن جبل: "شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً كان علىّ، فقال: يا معاذ، أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم، قال: قل، اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شىء قدير، رحمان الدنيا والآخرة رحيم ما تعطى منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، اقض عنى دينى، فلو كان عليك ملء الأرض ذهباً قضاه الله" ، رواه ابن أبى الدنيا، ورواه الطبرانى، لكن إلى بغير حساب، والباء متعلق بترزق بمعنى مع، أو بمحذوف حال من ضمير ترزق، كأنه قيل، غير محاسب، بكسر السين، أو مِنَ مَن، كأنه قيل: غير محاسب بفتحها.