التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

تيسير التفسير

{ هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ } القرآن { مِنْهُ ءَايآتُ مُحْكَمَاتٌ } واضحات الدلالة، ولو احتملت النسخ، وزاد الحنفية أنه لا يحتمل النسخ مع الوضوح، فهن أحكمن عن اللبس أو عنه وعن النسخ { هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ } أصله المعتمد عليه، كل واحدة أم الكتاب، أو هن كالآية الواحدة في التكامل والاجتماع والأصل ما يرد إليه غيره، كقوله تعالى، { { لا تدركه الأبصار } [الأنعام: 103]، يرد إليه قوله تعالى: { { إلى ربها ناظرة } [القيامة: 23]، بتفسيره بمنتظره { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } لا يفهم معناها، ومعنى متشابه مشتبه، أى منبهم غير متبين، فلا يحتاج إلى ما يشاركه في الشبه، فلا إشكال، وذلك كأوائل السور مما يفهم ألبتة، أو يفهم بمزيد تأول، أو متشابهات بمعنى محتملات، كالقروء للحيض، أو للأطهار أو مجاز وتلويحات، فكأنه قيل، عارضوه بما شئتم، بصريحه، أو غير صريحة فلن تستطيعوه، أو المتشابه ما لا نعلم علته، كأعداد الصلوات، والمحكم ما عقلت علته، والتشابه من صفات المعنى، وصف بها اللفظ مجازاً، من إسناد ما المدلول للدال، وبطلق المحكم على الحكم أيضاً، على معنى نفى العيب معنى ولفظا المتشابه على معنى تشابهها في الصدق والحسن، وكل القرآن لا عيب فيه وصادق حسن، روى "أن وفد نجران أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا ذلك، فرد عليهم" ، وبين أن الكتاب قسمان، قسم يفهمه الناس، وقسم لا يفهمه أمثالهم، كما لم يفهموا معنى كونه كلمة الله وروحاً منه، { فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } الميل إلى الباطل، والميل يصلح فى الميل إلى الباطل، وفى الميل إلى الحق، فهو أعم من الزيغ، وهم اليهود ونصارى نجران والمنافقون، ومنكرو البعث { فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَآبَهَ مِنْهُ } عملا بظاهره أو بتأويله بباطل { ابْتِغَآءَ الفِتْنَةِ } طلبا لصرف الناس عن دين الحق، كتفسير يد الله باليد الحقيقية. وهو شرك، وتفسيرها باليد بلا كيف وهو فسق، وكذا سائر أسماء الأعضاء والجهات في القرآن في حق الله تعالى عنها، وكتفسير الاستواء بالتمكن حقيقة وهو إشراك، وبلا كيف وهو فسق، وكزعم المشرك أن العرش واحد قديم عليه، عليه تمكن، أو نوع قديم كذلك { وَابْتِغَآءَ تَأْوِيِلِهِ } طلبا لرجعه إلى معنى باطل، فإن التأويل يطلق على التفسير الباطل كما يطلق على التفسير الصحيح، أو المراد التأويل الصحيح من زعمهم، وفي تأويلهم تشكيك للناس، وابتغاء التأويل يوجب ابتغاء الفتنة بدون عكس، ولذا قدم ابتغاء الفتنة، وكانوا يظهرون التناقض بين معانى القرآن بمناقضة المحكم بالمتشابه، مثل أن يقولوا، كيف يقول، { { ليس كمثله شىء } [الشورى: 11] مع قوله { { على العرش استوى } [طه: 5]، ويد الله وعينه وجنبه ونحو ذلك، وصح الجمع بين ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل لما علمت من أن ابتغاء التأويل يوجب ابتغاء الفتنة دون العكس، أو لأن ابتغاء التأويل في زعمهم إظهار للحق وتجويد للفهم بدون اعتبار أن يقتدى بهم غيرهم أو ألا يقتدوا بهم { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } أى تأويله المتشابه { إلآ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ } عطف على لفظ الجلالة { في العِلْمِ } يعلم الله والمتمكنون في العلم معنى المتشابه كما نسرنا الاستواء بالغلبة، واليد بالقدرة والملك، وإن أريد بالمتشابه ما اختص الله بعلمه. وعلم وجه الشىء كمدة الدنيا، أو سائر خلقه وعدد الزبانية التسعة عشر فالمعنى لا يعلم تأويله إلا الله، وأن الراسخين في العلم { يَقولُونَ ءَامَنَّا بِهِ } بالمتشابه كما هو بلا دخول في تفسيره. الجملة مستأنفة، أو حال من الراسخون، وإن جعلنا الراسخون مبتدأ فالجملة هذه خبره { كُلٌّ } من المحكم والمتشابه { مِّن عِندِ رَبِّنَا } كناية عن كونهما حقا، فإن كل ما جاء من الله حق، "روى أنس عنه صلى الله عليه وسلم أن الراسخين من صدق حديثه، وبر يمينه، وعف بطنه وفرجه" ، والمراد أن هذه علامتهم التى يتعين أن يكونوا عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد نجران، "ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت، وأن عيسى عليه السلام يأتى عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال عليه الصلاة والسلام: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: نعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن عيسى عليه السلام حملته أمه كما تحمل المرأة، ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى، قال عليه الصلاة والسلام. فكيف يكرن هذا كما زعمتم، فسكتوا" ، فأنزل الله عز وجل فيهم من سورة آل عمران إلى بضع وثمانين، وتقدم أن ثلاثة من الوفد مقدمون عندهم، وآل أمرهم إليهم، وهم العاقب أميرهم، والسيد صاحب رحلتهم، وأبو حارثة بن علقمة حبرهم وإمامهم، وروى أنهم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرة، جبب وأَردية من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا إلى المشرق، فكلم العاقب والسيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسْلِما، فقالا: قد أسلمنا قبلك، قال صلى الله عليه وسلم: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، فقالا: إن لم يكن ولد الله فمن أبوه؟ إلى آخر ما مر، وفيه، ألم تعلموا أن ربنا قيوم كل شىء وحافظه ورازقه؟ قالوا: بلى" { وَما يَذَّكَّرُ } يتذكر في شأن المتشابه كغيره { إلآّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } وهم الراسخون فى العلم، مدحهم بشدة، قوة للنفس معدة لاكتساب الأَراء لخلوها من الأوهام الفاسدة، وهذا من كلام الله عز وجل، والرسوخ في العلم يكون بالتقوى والتواضع والزهد والمجاهدة، وهذا كلام من الله، معترض بين قول الراسخين المتقدم وقولهم.