التفاسير

< >
عرض

فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ
٩٧
قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
٩٨
-آل عمران

تيسير التفسير

{ فِيهِ } أى فى حرمه، فحذف المضاف، أو فى الحرم المدلول عليه بالسياق، أو فى البيت معبرا به عما يجاوره من الحرم { ءَايَآتٌ بَيِّنَاتٌ } واضحات على احترامه، كانحراف الطير عن أن تعلوه فى طيرانها إلى الآن، إلا إن مرضت فتدخل هواءه فوقه لتشفى، وهذا لا ينضبط لكثرة ما تعلوه، وكعدم تعرض السباع للصيد فى الحرم كما يتبع سبع من الطير أو الوحش طائراً أو غيره فيدخل الحرم، فيرجع عنه، ولقلة حجارة الرمى مع كثرة الرماة، فإنها ترفع بالقبول، وكل ركن منه وقع الغيث فيما يقابله من الأرض وقع الخصب فيما يليه من البلاد، فإذا وقع فيها يقابل ركن اليمن وقع الخصب فى اليمن وهكذا، أو آيات الحرم كلها آيات له، لأنها من أجله، وأما تعرض الهر لحمام مكة فلأنه تكيف بكيفية النَّاس المجاورين له، فصار كالإنسان المتعدى فى الحرم، إلا أنه لا إثم عليه، وكقهر كل جبار قصده، كأصحاب الفيل، وكقوم من الإنجيلز قبل وقتى هذه بخمس سنين، لبسوا لباس أهل التوحيد وجاءوا عرفة، فنزلت صاعقة من السماء فأحرقتهم دون سائر أهل عرفة، وذلك لحرمة البيت والمناسك، ولو كانت عرفات خارجة عن الحرم، والجملة إما مستأنفة وإما حال أخرى، لا حال من ضمير للعالمين، لأنه عائد لهدى، فيكون المعنى، هدى ثابتا للعالمين فى حال أن فى البيت آيات بينات، ولا رابط من ضمير، أو واو حال، وإن رجعنا الهاء للهدى كان المعنى فى حات ثبوت آيات بينات فى الهدى، وهذا لا يصح، وإما حال من ضمير مباركا، ولا يجوز أن يكون نعتا لهدى لما مر من منع الحال فيه { مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ } منها مقام إبراهيم، أو عطف بيان، ولو اختلفا تعريفا وتنكيرا عند بعض، لا بدل بعض لعدم الرابط، إلا أن يقدر محذوف، أى منها، وعلى البيان تكون الآيات نفس مقام، فالمقام هو الآيات، لأن فيه أثر قدم إبراهيم، وهو صخرة صماء وأنها غاصت فيه إلى الكعبين، وأنه لان من بين الصخور، وأنه باق ومحفوظ مع كثرة الأعداء آلاف السنين، فبين إبراهيم والهجرة ألفان وثمانمائة سنة وثلاث وتسعون سنة، وعلى زعم اليهود ألفان وأربعمائة واثنتان وأربعون سنة، وذلك أثر قدم واحدة، وقيل قدمين، وهو الحجر الذى يبنى البيت وهو عليه، ونادى عليه: أيها الناس، حجوا بيت ربكم، وتعمد عليه من ظهر راحلته فرجلت أم إسماعيل رأسه، ثم تعمد عليه من الجانب الأيسر، واندرس الأثر من كثرة المسح عليه بالأيدى { وَمَن دَخَلَهُ } الهاء للبيت بمعنى الحرم عَلَى ما مر، أو على الاستخدام { كَانَ ءَامِناً } أو لم يروا أنا جعلناه حرماً آمناً، قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد آمناً، يلتجىء إليه القاتل فلا يقتل حتى يخرج فى الجاهلية والإسلام، ولا يؤوى فى الإسلام حتى يخرج فيقتل عندنا وعند أبى حنيفة، وقال الشافعى وغيره: يقتل فيه، وكذا الخلف إذا لزمه الرجم للزنا، أو القتل للردة، وإن فعل فيه موجب قتل فإنه يقتل فيه إجماعا. قال عمر رضى الله عنه: لو ظفرت فيه يقاتل الخطاب، يعنى أباه، ما مسسته،وقال ابن عمر: لو ظفرت فيه يقاتل عمر لم أمسه حتى يخرج، ويقتص فيه يمادون القتل، والجاهلية يخطفون المال من الحل ولا يخطفون من الحرم، قال الله جل وعلا: { ويتخطف الناس من حولهم }، وقيل: آمنا من النار، قال صلى الله عليه وسلم: "من مات فى أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا" ، وعن ابن عمر.من قبر فى مكة مؤمنا بعث آمنا يوم القيامة، وعنه صلى الله عليه وسلم، "الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وبنثران فى الجنة" ، قال ابن مسعود وقف صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون ولا مقبرة فيها فقال: "يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتى سنة" { وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ } حج مبتدأ خبره الله، وعَلَى متعلق بالله أ لأنه ناب عن ثابت أو ثبت المقدر، أو بمحذوف حال من المستتر فى لله، ولا يحسن جعل وجعل الله متعلقاً به أو بالمقدر، أو حالا من الضميرالمقدر، لأن للعامل المعنوى لا يتقدم عليه معموله فى الأفصح ولو ظرفا، وإن قدرنا الكون خاصا مثل واجب فلا ضمير فى لله، وحذف لفظ واجب، وهو خبر مع الضمير فيه، فيتعلقان بواجب، أو الثانى بحال من ضمير واجب، والحج القصد، أى القصد للبيت بوجه مخصوص، وهو الإحرام والوقوف والطواف وسائر ما يجب فى ذلك { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } أى على مستطيعهم، فمن بدل بعض من الناس، والرابط محذوف، أى من استطاع منهم، ويضعف أن يراد بالناس مخصوص، فيكون من يدل كل، والمخصوصون من قدر بمعنى جنس القادرين الذين رأيتموهم يحجون، وقدر بعض أعنى من استطاع، وكون من فاعل حج فيكون الوجوب على المجموع لا عَلَى الجميع، أو بمعنى يجب عليهم أن يأمروا مستطيعهم بالحج، وعَلَى كل حال المراد المستطيع طريقاً بالزاد والراحلة كما رواه الحاكم والدارقطنى، ودخل فيه أمان الطريق ومرافقته الأصحاب، وروى الدراقطنى أيضا، ظهر بعير، وصحة الأبدان، ووجود الدليل، ووفقه الأهل الواجبة حتى يرجع، إذ لا منفعة فى الزاد والراحلة مع عدم الدليل، لأنهم يضلون، ولا مع المرض إذ لا يتماسك عَلَى الراحلة، أو لا يدرى كيف يؤذى، ولا مع عدم الأصحاب لأن الواحد شيطان والاثنين شيطانان، ولا مع الخوف من عدو أو سبع، إذ قد يموت، فأين الحج، ولا مع تضييع حق الأهل فى النفقة، ومن قدر عَلَى المشى لقوته أو للقرب لم تشترط له الراحلة، فظهر أن ما ذكر فى الأحاديث السابقة ليس عَلَى الحصر، وقد روى البيهقى عن ابن عباس موقوفا،إن السبيل صحة البدن وثمن الزاد والراحلة من غير أن يجحف به،وما ذكرته هو مذهبنا ومذهب أبى حنيفة، وأما الشافعى فاقتصر عَلَى ما فى الحديث، وأما مالك فيقول بالمال أو بالقوة، فأوجب على القادر أن يحج برجليه ويكسب، والآية تشمل المشركين، فيجب عليهم أن يسلموا مطلقا ويحجوا إن استطاعوا، وهم مخاطبون بالفروع لهذه الآية ونحوها كالأصول، ولا إشكال فى قولك، يجب عَلَى المشرك الحج، فإن لم يحج أو كفر بالحج فإن الله غنى، نعم يثقل لأنه كان شرط الإسلام، وأن الخطاب فى سائر العبادات للمؤمنين فليكن هذا من ذلك، والآية حجة عَلَىأن الاستطاعة قبل الفعل، وقولك هى مع الفعل لا قبله إلا الحج فقبله لا يتم، إذ لا يتصور الفرق بين الحج وغيره، والاستطاعة بمعنى سلامة الآلة قبل الفعل مطلقا، وبمعنى علاجه معه مطلقا { وَمَن كَفَرَ } بالله أو بالحج، وقال ليس عبادة، أو ليس واجبا { فَإِن اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ } مؤمنيهم وكافريهم، جنهم وإنسهم، وملائكتهم، وإنما منفعة المطيع له، ولا يحتاج الله لشىء، وذلك الكافر من جملة العالمين، فإن الله غنى عن عبادته، أو أراد بالعالمين من كفر لما نزل ولله الآية، جمع صلى الله عليه وسلم الملل الست وقال: "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" ، فآمنت به ملة، وكفرت به خمس، فنزل قوله تعالى: { ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين }، ونزل فى خصوص أهل الكتاب، لأنهم أحق بالإيمان قوله تعالى:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ } تجحدون { بِأيآتِ اللهِ } القرآن وسائر الوحى إلىَّ وسائر معجزاتى الدال ذلك كله عَلَى صدقى فيما أقول، من وجوب الحج وغيره، وقيل المراد بقوله، ومن كفر من لم يحج تغليظاً، كأنه مشرك، كما جاء فى الحديث،
"من قدر ولم يحج بلا عذر، فإن شاء مات يهوديا أو نصرانيا" وكما هدد عمر أهل المستطيعين بضرب الجزية، وقال والله ما هم بمسلمين، والله ما هم بمسلمين، والآية ظاهرة فى أن أهل الشرك، ولو احتملت الكفر العام بكفر الشرك وكفر النفاق، وفى الحديث، "ومن ترك الحج لا يخاف عقوبة ومن حج لا يرجو ثوابا كفر" ، والله غنى عن العالمين، وكان أهل الكتاب ينكرون وجوبه، ونزلت الآية ردا عليهم، كما قال { وَاللهُ شَهِيدٌُ عَلَى مَا تَعْمَلُون } فيجازيكم عَلَى تحريفكم وسائر أعمالكم، وخصهم لأن كفرهم أقبح إذ معرفتهم بالآيات أقوى، ويشاهدون صدقه فى كتبهم، فهم كافرون بكتبهم إذ أنكروا ما فيها، ولو زعموا أنهم آمنوا.