التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً
١٧٤
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
١٧٥
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٧٦
-النساء

تيسير التفسير

{ يآ أيُّهَا النَّاسُ } مطلقا { قَدْ جَآءَكْم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } البرهان المعجزات والدين والرسل ودلائل العقل، وعن ابن عباس هو النبى صلى الله عليه وسلم { وَأَنزَلَنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } القرآن أو البرهان والنور، كلاهما القرآن، فإنه سبب لوقوع نور الإيمان فى القلب، ولأنه يتبين بالنور الأعيان، وبرهان على صدق مبلغه فى دعوى الرسالة، وجاز أن البرهان الدين لابتنائه على البراهين القاطعة، وأنه صلى الله عليه وسلم برهان لأن حرفته إقامة البراهين على تحقيق الحق وإبطال الباطل، وفرع على مجىء البرهان وإنزال النور تفصيلا بقوله:
{ فَأَمًَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ } بالله تعالى، وقيل بالنور المبين، وهو القرآن، والصحيح الأول { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ } جنته، سماها على التجوز الإرسالى، والظرفية حقيقة باسم ما ينزل فيها، وذلك فى مقابلة عملهم، ولا واجب على الله، وقيل الرحمة الثواب والظرفية مجازية { وَفَضْلٍ } إحسان بما لا يعلمه إلا الله زائد على ذلك { ويَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ } إلى الله، أى ثواب الله، أو إلى الفضل، أو الموعود به { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } دين الإسلام فى الدنيا، أو طريق الجنة فى الآخرة، وأما الذين كفروا واعتصموا بالطاغوت فسيدخلهم فى عذابه، وقدم ذكر الرحمة والفضل مع تأخيرهما فى الوجود عن الهدى إلى الصراط المستقيم تعجيلا للمسرة، ويجوز جعل إليه حالا من صراطا، ويروى أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى كلالة، كيف أصنع بمالى؟ ولفظ البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله مرضت فأتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانى ماشيين، فأغمى علىَّ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب عَلَىَّ من وضوئه فأفقت، فإذا النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، كيف أصنع فى مالى، كيف أقضى فى مالى، فلم يرد عَلَىَّ شيئا حتى نزله قوله تعالى:
{ يَسْتَفْتُونَكَ } أى فى الكلالة، بدليل قوله تعالى { قُلِ اللهُ يُفْتِنكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ } ولفظ أبى ذر من رواية البخارى، اشتكيت وعندى سبع أخوات، فدخل عَلَىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى، وأبو بكر، فنفخ فى وجهى، فأفقت، فقلت، يا رسول الله، أوصى لأخواتى بالثلثين؟ قال: أحسن، قلت، بالشطر، قال: أحسن، وأحسن، فعل أمر، يعنى الإيصاء لهن بالثلثين أو بالنصف إسراف غير إحسان، ومثل ذلك لأبى داود، وكذا الترمذى إلا أنه ذكر تسعا بالمثناة، وروى ابن سيرين أن الآية نزلت فى مسير النبى صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، وبلغها حذيفة إلى عمر، وهو يسير خلف حذيفة، ولما استخلف عمر سأل حذيفة عن تفسيرها، فقال، والله، إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملنى أن أحدثك فيها ما لم أحدثك يومئذ، فقال عمر: لم أرد هذا، رحمك الله تعالى، ثم خرج، وتركنى، فقال، يا جابر، ما أراك ميتا من وجعك هذا،وأن الله قد أنزل قرآناً فبين لأخواتك، فجعل لهن الثلثين، فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فىَّ، وفى رواية، دخل عَلَىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، ثم صب عَلَى فقمت، فقلت، إنه لا يرثنى إلا كلالة، فكيف الميراث، فنزلت آية الفرائض، وهى آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء وآخر سورة نزلت كاملة براءة والمراد الآيات المتعلقة بالأحكام، ومن حديث جابر عن الترمذى، وكان لى تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث، يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة { إنِ امْرُؤ اهَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ذكر ولا ولد ابن ذكر ولا والد، ولو علا، واختار بعض أن المراد بالولد الذكر، لأنه المتبادر، إذ هو أحب إليهم، وليتوافق الاسم والمسمى فى الذكورة، ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت النصف لكن لا بالفرضية، بل بالعصبة، واعترض بأنه تخصيص بلا مخصص، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد، لأن الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت، غير ثابت عند وجود أحدهما، فإن الابن يسقط الأخت، والبنت تصير عصبة، فلم يتعين لها فرض، والنصف لها مع البنت بالعصوبة، وأيضا الكلام فى الميت الكلالة، وهو الذى لا ولد له { وَلَهُ أُخْتٌ } شقيقه أو أبويه { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ } أي هذا الأخ { يَرِثُهَآ } يرث مالها كله وحده { إن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ } لا ذكر ولا أنثى، فإن كان لها أو له ولد ذكر ولو سفل، أو أب وإن علا، فلا شىء لهذا الأخ أو الإخت، وإن كان له أو لها ولو أنثى فصاعدا فالموجود منهما عاصب، وإن كان الأخ أو الأخت من الأم فالسدس،أو متعدد فالثلث، والآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به، ودلت السنة عَلَى أنهم لا يرثون مع الأب، قال صلى الله عليه وسلم
"ألحقوا الفرائض فما بقى فلأولى عصبة ذكر" ، بفتح همزة أولى ولامه، أى لأقرب ذكر، ولا شك أن الأب أقرب من الأخ، وذكر الطبرى عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة، فسألوا عنها النبى صلى الله عليه وسلم فنزل، { ويستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة }، وهى عند جمهور أهل اللغة وكثير من الصحابة من لم يخلف ولداً أو والدا، كما قال جابر، إنى كلالة، وقد يعبر بها عن القرابة من غير جهة للوالد والولد، للضعف، كما فى رواية عن جابر، وإنما يرثنى كلالة، ويقال: أنزل الله جل وعلا فى الكلالة آية فى الشتاء، وهى التى فى أول السورة، وأخرى فى الصيف وهى هذه، وتسمى آية الصيف، روى مالك ومسلم عن عمر رضى الله عنه ما سألت النبى صلى الله عليه وسلم أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه فى صدرى، وقال: "يكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء" ، عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد سورة النصر عاماً، ونزلت بعدها براءة، وهى آخر سورة نزلت كاملة، فعاش النبى صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر، ثم نزل فى طريق حجة الوداع قوله تبارك وتعالى: { يستفتونك قل الله يفتيكم }، وقيل: نزلت وهو يتجهز لحجة الوداع فى الصيف، ونزل وهو واقف بعرفات، اليوم أكملت.. الآية، وعاش بعدها واحداً وثمانين، ثم نزلت آية الربا، ثم نزلت، واتقوا يوماً الآية، وعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً، وذكر البخارى ومسلم عن البراء أن آية يستفتونك قل الله الخ آية نزلت من الفرائض { فَإنْ كَانَتَا } أي وإن كان من يرث بالأخوة وثنّى وأنث اعتباراً للخير، وهو قوله { اثْنَتَيْنِ } وإلا فكيف يشترط للاثنتين أن تكونا اثنتين فإنه تحصيل للحاصل، وفى الآية تنبيه على أن المعتبر العدد لا الصغر والكبر ولا غير ذلك، والمراد اثنتان فصاعدا، لأنها نزلت فى جابر، وقد مات عن أخوات سبع أو تسع، وهو آخر الصحابة موتاً بالمدينة { فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } أخوهما { وَإن كانُوا } أى كان من يرث بالإخوة، وجمع باعتبار الخبر، وهو قوله { إخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً } على حد ما مر قبله، وفى أول السورة، وغلب الذكور فدخلن فى الإخوة { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن يُبَيِّنُ اللهُ } أحكام الإرث وغيره { لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا، لورود لفظ الكراهة بمعنى المنع فى حق الله عز وجل، مثل قوله صلى لله عليه وسلم: "إن الله كره لكم القيل والقال فى أحاديث" وهذا أولى لقلة الحذف، وفى الأول حذف اللام ولا، وحذف المضاف أيضاً أوسع، بخلاف حذف لا، فإنماهو فى مثل قوله تعالى: { { تالله تفتأ } [يوسف: 85]، والوجهان فى قوله تعالى: { أن تزولا }، وفى حديث ابن عمر: "لا يدع أحدكم على ولده، أن يوافق من الله ساعة إجابة" ، ولو استحسن الكسائى فى الحديث حذف اللام ولا { وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } من مصالح الحياة والموت.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، لا ملجأ من الله إلا إليه.