التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٥
وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٦
-النساء

تيسير التفسير

{ وَلاَ تُؤْتُوا } الخطاب للأَولياء ونحوهم من الأوصياء والأزواج والوكلاء والمحتسبين { السُّفَهَآءَ } الأطفال والمجانين والبله، ومن يضيع ماله أو ينفقه فى المعصية، أو لا يقوم به من الرجال أو النساء فسفههم سوء، فعلهم لخفة عقلهم { أَمْوَالِكُمُ } أى أموالهم، ولكن أضافها للأولياء المخاطبين ونحوهم لأنهم امروا أن تكون تحت أيديهم ويحافظوا عليها كأموالهم ويخرجوا زكاتها، أى لا تتركوها تحت أيديهم إن كانت عندكم فأمسكوها وإلا فخذوها حفظاً لها وذلك يناسبه أن الكلام قبل وبعد فى اليتامى فألحق بهم أمثالهم، وقيل الخطاب لأصحاب الأموال، نهوا أن يؤتوها لمن ذكر فيفسدوها، ويكونوا يطالبونهم بما يحتاجون إليه منها كأنهم غير مالكين لها، وأمروا بإمساكها وإقامتها والإنفاق منها بما شاءوا عليهم من العدل، ولا يرد على هذا القول بأن النهى للتحريم، ولا يحرم عليه أن يعطى من ماله لهؤلاء، لأن صاحب هذا القول يفسر الإيتاء بالتمكين من المال لا بالتمليك، نعم القول المعروف المأمور به فى الآية يناسب كون الخطاب للأَولياء، ونحوهم { الَّتِى جَعَلَ اللهُ } جعلها الله { لَكُمْ قِيَاماً } أى من جنس أموالكم التى تقوم بحياتكم، وذلك أن الخطاب لنحو الأولياء، والمال لنحو اليتامى، لا للأَولياء، وفيه تأكيد الحفظ، كما يحفظ الرجل مال نفسه، أو يقدر جعل الله مثلها لكم قياماً، وكأنها قيم لهم مع أنها قيم لنحو اليتامى، وإن جعلنا الخطاب لأصحاب الأموال فالمال مالهم، وهو قيم لهم، وسمى ما به القيم قيما، مبالغة فى السببية، حتى كأنها نفس القيام، أو هو اسم لما يقام به، والأصل قوماً كعوض وحول، لكن أعلت حملا على قيام، وقيل هو قيام حذفت ألفه { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } أى منها، أو اجعلوها مكاناً لرزقهم، أى اجعلوا لهم فيها رزقاً بالتجر فلا تفنى، لكون الرزق من أرباحها، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالتجر بأموال اليتامى، وهذا أولى من الوجه الأول، وهو كون فى بمعنى من الابتدائية، أو التبعيضية { وَاكْسُوهُمْ } منها، أو اجعلوها مكاناً لكسوتهم بالتجر على حد ما مر { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يعرف شرعاً بالحسن، فيتبعه العقل السليم، وهو ضد المنكر، مثل أن يقول: إن ربحت فى سفرى أو غنمت فى غزوتى أعطك كذا، أو حظَّا، وأن هذا المال مالك إذا بلغت حسن القيام به أرده إليك، ونحو ذلك من الوعد الجميل والقول الحسن، ومنه أمره بالمحافظة على الصلاة، وسائر الدين، وترك الإسراف، وأن عاقبة المسرف الاحتياج إلى الناس، وروى أن رفاعة مات وترك ابنه صغيراً، اسمه ثابت، فقال عمه: يا رسول الله ابن أخى يقيم فى حجرى، ما يحل لى من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزل قوله تعالى:
{ وَابْتَلُوا } اختبروا { اليَتَامَى } قبل البلوغ ببيع ما قل، وشراء ما قل، وبيع الطفلة غزلها ونحوه مما قل، وشراء مثل ذلك، أو بقوله على تبيع كذا بكذا أو تشتريه بكذا، أو يعقد بيعاً أو شراء ويحضر له، فيقول له: هل يصلح هذا فيمضى البيع، لأن الولى أذن له خلافاً للشافعى فإنه يوقفه على إمضاء الولى، ولا يشترط اختباره فى دينه خلافاً للشافعى { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } حد النكاح، وهو البلوغ بإحدى علامات البلوغ، فإن لم تكن فخمس عشرة سنة عندنا وعند الشافعية، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأقيمت عليه الحدود" ، أو الطفل أربع عشرة، والأنثى ثلاث عشرة، وزعم أبو حنيفة أن مدة البلوغ الذكر ثمانى عشرة سنة والأنثى سبع عشرة، وله قول كقولنا تفتى به الحنيفة، وتمسك لقوله الأول بقوله تعالى: { حتى يبلغ أشده }، إذ قال ابن عباس: أشده ثمانى عشرة، وحتى للابتداء والتفريع، ولا تخلو عن غاية { فَإِنْ انَسْتُم } أبصرتم { مِّنْهُمْ رُشْداً } صلاحاً فى المال عندنا، ويدل له قوله: واتبلوا اليتامى، فإنه فى المال، قال الشافعى: وفى الدين { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فالاختبار قبل البلوغ والدفع بعده، وبعد الإيناس، وإن بلغوا ولم يؤنس رشدهم لم يدفع إليهم أموالهم ولو بلغوا خمساً وعشرين سنة أو أكثر، وزعم أبو حنيفة أنه لا يدفع إليهم أموالهم ولو أونس رشدهم ما لم يبلغوا خمساً وعشرين، وإذ بلغوها دفعت إليهم ولو لم يؤنس رشدهم، لما روى عن عمر رضى الله عنه: ينتهى لب الرجل إذا بلغ خمساً وعشرين، ولا تدفع لهم قبل البلوغ ولو أنس رشدهم، وإن بلغوا ورشدوا وأرادوا أن لا يأخذوها جاز إمساكها إذا كان باختيارهم، لا خوفاً ولا مداراة، وزاد سبعاً على مدة البلوغ عنده، لأن السبع معتبرة فى تغير أحوال الإنسان، كقول صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة لسبع" { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً } أكل إسراف أو مسرفين وذوى إسراف، أو لأجل إسراف، وكذا فى بدار، أو جاز أكل بمعروف فى مقابلة عملكم، ولما يفسد من طعامهم إن لم يؤكل مع تعويض { وَبِدَاراً } أى سرعة، وليس الفعال على بابه، إلا أن يقال، إن اليتيم يبادر النزع أو شبه الفعل بلا مفاعلة، كالفعل بها، لجامع شدة الاجتهاد بها، وشبه مجىء زمان كبرهم شيئاً فشيئاً بمن يتعاطى أن يكون أسرع منهم { أن يَكْبَرُوا } مفعول به لبدارا، من إعمال المصدر المنون، أو تقدر لام التقوية، أو إلى، أو مخافة أن يكبروا، وكانوا يسارعون فى أكل أموال اليتامى قبل أن يبلغوا أو يطلبوها، فنهوا عن ذلك، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما - قال رجل: يا رسول الله إن فى حجرى يتيما فآكل من ماله، قال: "كل بالمعروف غير متأثل بماله مالا، ولا واق مالك بماله" لقوله تعالى { وَمَن كَانَ غَنِيَّا } من أولياء اليتامى والأوصياء ونحوهم ممن كان مال اليتامى فى أيديهم { فَلْيَسْتَعْفِفْ } من الأكل منها، والاستعفاف للمبالغة أى فليطالب نفسه مطالبة شديدة فى الامتناع عن الأكل منها { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ } منه { بِالْمَعْرُوفِ } قيل هو أجرة عمله تقدر بعدل، وقيل بأقل من أجرة سعيه، وعندى أن ذلك غير أجرة، وعبارة بعض أن الولى الفقير يأخذ بلا إذن أقل الأمرين من النفقة والأجرة بالمعروف على سعيه، لأنه تصرف فى مال من لا تمكن مراجعته كعامل الصدقة، والمراد بالأكل ما يشمل سائر المؤونات أو ظاهره، ويقاس عليه غيره، ولا يأخذها الحاكم إلا بإذن الإمام أو الجماعة، وكذا الإمام بإذن من معه من قيام الإسلام، وقيل الأكل بالمعروف الاستقراض ويشهد عليه، وإذا أيسر قضى، وعن عمرو رضى الله عنه: إنى أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت، قلت: بل هذا فى القرض منه زيادة على ما فى الآية من الأكل بالمعروف، وعنه أنه كتب إلىعمار، وعبد الله بن مسعود، وعثمان بن ضيف: سلام عليكم، أما بعد، فإنى قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإنى أنزلت نفسى وإياكم من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، فمن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف، وقيل القرض من الذهب والفضة، وله مع ذلك التناول من اللبن واستخدام العبيد وركوب الدواب بلا مضرة للمال تمسكا يقوله تعالى { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالِهُمْ } لإيناس الرشد إذا أردتم دفع أموالهم إليهم { فَاشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } أمناء، أو أمينين، أى أحضروهم، وادفعوا للأيتام أموالهم، وأشهدوهم، لئلا ينسى اليتامى أو ينكروا، أو اكتبوا ذلك، وإن دفعتم إليهم فليقروا لمن يشهد، والحاصل أنه يجب على ولي اليتيم أو نحوه أن يعمل فى تحصيل براءة ذمته من التهمة والضمان، والأمر للإرشاد، قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا مواقع التهم" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوى عدل ولا يكتم" ، فأمره بالإشهاد لتزول تهمته، ولا يصدق القيم فى قوله إنى أوصلت مال اليتيم إليه بلا بينة ولا إقرار اليتيم بعد بلوغه، ويصدق فى قوله أنفقت عليه كذا، مما لاق وأمكن ولم يتبين كذبه، ولا يمين عليه، وزعم أبو حنيفة أنه يقبل قوله في الدفع بعد البلوغ بلا بينة، ولا إقرار يتيم، وإلا لم تقبل وصية، وترد الآية قوله، وإن سائر الدعاوى لا بد فيها من بيان، وإن أعطاه قبل البلوغ ضمن ما أفسد الطفل، قيل وكذلك قبل إيناس الرشد يضمن { وَكفَى بِاللهِ حَسِيباً } محاسباً، فلا يغرنكم ستر ما خدعتم به فى أموال اليتامى فى الدنيا.