التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
-الأحقاف

تيسير التفسير

{ ووَصينا } التوصية والايصاء التقدم الى أحد بما يعمل به، مقترنا بوعظ وتأكيد { الإنسان } الجنس او الاستغراق حتى يشمل الصبيان، فانهم موصون بالأعمال الصالحة، ويثابون عليها، ولا يعاقبون على شىء، وكل طاعة أمر بها أو معصية نهى عنها فان الطفل داخل فيها إلا أنه لا يسمى فعله فسقا أو كفرا أو فحشا، ووجه دخوله أن الأمر يكون للندب، كما يكون للوجوب فقد يجوز الجمع بينهما بلفظ واحد، فيدخل الطفل، فيكون فى حقه للندب، وفى حق المكلف للوجوب، وكذا المحروم هو كراهة فى حق الصبى، وهذا أولى فى الزجر والمحافظة على حقوق الوالدين، والمتبادر الجنس، وكثير ما يكون الشىء عاما، والمقام ليس لذكر الاستغراق، فيحمل على الجنس.
{ بوالديْه } أبيه وأمه، ولو مشتركا اذا حكم الشرع بالشركة فى الولد { إحْساناً } اسم مصدر هو الاحسان مفعول به لوصينا لتضمنه معنى ألزمنا أو مفعول مطلق لتضمن حسنا معنى، وصينا أو وصينا معنى أحسنا أى احسنا بالوصية للانسان بوالديه احسانا أو لتقدير وصينا الانسان ايصاء ذا حسن، وقيل: وصينا الانسان أن يحسن بوالديه احسانا، ولا يعلق الجار بحسنا بعده، لأنه مصدر مقصود به، أن والفعل، وأما قوله تعالى:
" { ولا تأخذكم بهما رأفة } " [النور: 2] فليس على معنى لا يأخذكم بهما أن ترأفوا فيجوز التعلق به، وأما " { فلمَّا بلغ معه السعي } " [الصافات: 102] فمع متعلق ببلغ، والقاعدة التصرف فى الظروف والجار والمجرور لاحتياج الأشياء اليها، فيقاس فيما لا ينحل الى حرف المصدر والفعل، ويتوقف مع السماع فيما ينحل، واذا عدى الحسن بالباء فهى للالصاق، والآية نزلت فى الصديق رضى الله عنه، الى "يوعدون" أسلم هو وأبواه كابن عمرو، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وإنما أسلم والد أبى بكر بعد الفتح والآية مدنية، وقد قيل: قوله تعالى: { رب أوزعني } الخ بالنسبة الى أبويه دعاء بتوفيقهما للايمان.
وروى أن أبا بكر صحب النبى صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانى عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين فى سفر الى الشام فى تجارة، فنزل تحت سمرة فقال له الراهب: انه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى الله عليه وسلم، فوقع فى قلبه تصديق الراهب، فلم يكن يفارق النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، ولا حضر، فلما بعث صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة آمن به، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ولما بلغ أربعين قال: { رب أوزعني }الخ.
{ حملتْه أمُّه كرهاً } ذات كره، أو حملا ذا كره أو مكروها لا بالذات بل من حيث المشقة، فانها فى المشقة من حين ينتن فى البطن، وصار علقة الى أن يولد، وذلك مشقة النتن، ومشقة كراهة بعض الأطعمة وثقله وتحركه { ووضَعتْه كرهاً } لمشقة الولادة، ويقال أيضا بضم الكاف كما هو قراءة بعض، ومعناهما واحد، وقيل المفتوح مصدر بمعنى الحدث، والمضموم اسم للحاصل من المعنى المصدرى، وقيل: المفتوح المشقة التى تنال الانسان من غيره باكراه، والله سبحانه وتعالى قهرها على الحمل والولادة الشاقين، والكره ما يناله من ذاته، وهو ما يعافه بالطبع والعقل أو الشرع.
{ وحَمْله } العلوق وما بعده { وفصاله } أى مدة حمله وفصاله، وهو الفطام والمفاعلة على بابها، وهو انفصال بينه وبين أمه فصلته وفصلها، وكل منهما فاصل الآخر، والاضافة للفاعل، وقيل: خارجة عن بابها بمعنى فصلته عنها كما قرأ أبو رجاء والحسن وغيرهما، وفصله أى وفطمه والاضافة للفاعل، وقيل: الفصال فى الأصل المصدر، والمراد الزمان، وهو وقت الفطم، وهو معطوف على مدة المحذوفة، لكن ناب عنها حمله، والفصال الرضاع التام الذى يعقبه الفطم، وذكر المشقة والرضاع حضا على برّ الأم والاحسان اليها، كل الاحسان لما تلقاه من الألم.
"قال رجل: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك فذلك ثلاث مرات، قال: ثم أباك" وذلك دليل على أن الأم أعظم حقا، وكذا ذكر مشافها فى الآية دليل على ذلك ثلاثا كما أفصح به الحديث عن الآية، ولم يذكر مثل ذلك للأب بل ذكره فى المرتبة الرابعة من الحديث، والجمهور على أن مدة الحمل أقلها ستة أشهر، لأن من ثلاثين شهرا سنتين للرضاع، كما قال الله عز وجل: " { حولين كاملين لمن أراد أنْ يتم الرضاعة } "[البقرة: 233] فيبقى منها للحمل ستة أشهر، وبه قال على وابن عباس، والأطباء، وشاهد جالينوس وابن سينا ولادة امرأة على مائة ليلة وأربع وثمانين ليلة، وأما أكثر مدة الحمل فليس فى القرآن ما يدل عليها، وقد ولدت امرأة ولداً لأربع سنين من حين الحمل، قد نبتت أسنانه وأزمنة حمل الحيوان أكثر ضبطا من زمان حمل المرأة، فقد تضع لسبعة أشهر، وقلما يحيا ما وضعت لثمانية الا فى بلاد معينة كمصر، ولو ولدت امرأة لأقل من ستة أشهر أى تحرك فى بطنها لأقل من أربعة أشهر، من حين النكاح، كان ولد زنى فترجم إلا إن كان زوج قبلها، فيلحق به، ولا رجم.
ومن أرضعت بعد حولين فليس برضاع موقع للحرمة، وقيل رضاع ان كان قويا مغذيا، وقيل: رضاع مطلقا وان أرضعت من له أكثر من حولين، فليس محرما لها، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا قال ابن عباس: اذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا، واذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وعن أبى حنيفة: المراد فى الآية الحمل بالأكف.
{ حتى إذا بَلَغ } عاش حتى اذا بلغ { أشدَّهُ } قوة عقله وبدنه، وقيل ثمانى عشرة سنة الى اربعين، وذلك قوته الشديدة، وقيل تشتد قوته وعقله اذا زاد على ثلاثين، وناصح أربعين، وعن قتادة: فى ثلاثة وثلاثين، فيقال: أول الأشد ما ذكر، وتمامه أربعون وهو اسم جمع، وعن سيبويه جمع شدة.
{ وبَلَغ أربعين سنَةً } عطف تفسير فسر بلوغ الأشد ببلوغ أربعين سنة، والأولى أنه غير بلوغ الأشد، فهو ما قبل أربعين فى قرب منها، وتكمل القوة عقلا وبدنا بتمام أربعين، وكذلك كان غالب النبوة على تمام أربيعن قلت: النبوة قبلها كما قيل فى يحيى وعيسى أنهما نبيان فى زمان الصبا قال الله تعالى:
" { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً } " [مريم: 30] وقال: " { وآتيناه الحكم صبياً } " [مريم: 12] وقيل هذا اخبار عما سيحصل لهما على تمام الأربيعن، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يجر يده على وجه من زاد على أربعين ولم يتب، ويقول بأي وجه لا يفلح" أى متعجبا من عدم فلاحه مع بلوغ أربعين، وعنه صلى الله عليه وسلم: "من أتى عليه أربعون سنة، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار" .
{ قال ربِّ } يا رب { أوزعْنِي } حضضنى { أنْ أشْكر } على أن أشكر { نعْمتك التي أنعَمتَ علىَّ وعَلى والدىَّ } من الايجاد، وصحة البدن والعقل، ودين الاسلام، نزلت فى أبى بكر وقد أسلم هو ووالده، وهى على عمومها فيمن يقول ذلك، وفيمن نعمة والديه نعمة الدنيا والدين { وأنْ أعْمل صالحا } فريقا كثيرا من العمل الصالح { ترضاهُ } بأن لا يخالطه اهمال أو رياء أو خلل أو عجب، وغير ذلك مما يفسده أو ينقصه، والرضا القبول، وقيل الرضا الثواب تسمية بالملزوم، والسبب باللازم والمسبب، وفسره بعض بالارادة، ولا يصح إلا أن عنى بالارادة، الحب.
{ وأصْلح لي في ذرِّيتي } اجعل الصلاح راسخا فيهم، نزل أصلح منزلة اللازم فعدى بفى للدلالة على الرسوخ فيه، وزعم بعض أن المراد ألطف بى فى ذريتى، أجاب الله دعاء أبى بكر رضى الله عنه، فأعتق تسعة من المؤمنين، يعذبون فى الله تعالى، منهم: بلال وعامر بن فهيرة، ولم يرد شيئا من الخير الا أعانه الله تعالى عليه، ودعا أيضا فقال: أصلح لى فى ذريتى، فلم يكن له ولد إلا آمن، فاجتمع له اسلام أبيه أبى قحافة، وعثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وأولاده، أدرك أبوه وولده عبد الرحمن، وولد عبد الرحمن، واسمه محمد، وكنيته أبو عتيق، النبى صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، ولم يجتمع لغيره من الصحابة ذلك أسلم هو وأبواه وبنوه وبناته وولد ولده، زاد عليه النبى بعامين أوحى اليه على أربعين عاما، وآمن به أبو بكر وهو ابن ثمان وثلاثين، والآية فى سعد بن أبى وقاص عند بعض، وصحح أنها فى أبى بكر، وقيل: على العموم.
روى أنه صاحب وهو ابن ثامنى عشرة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عشرين سنة فى تجر الى الشام، وقعد فى ظل سدرة، ومضى أبو بكر الى راهب يسأله عن الدين، فقال: من فى ظل السدرة؟ فقال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال: هذا والله نبى، ما استظل بعد عيسى تحتها أحد الا هذا، وهو نبى آخر الزمان، وصدقه أبو بكر، فكان لا يفارق النبى صلى الله عليه وسلم، فى حضر ولا سفر { إنِّي تُبتُ إليْك } من كل حرام، وكل مكروه، { وإنِّي مِن المُسْلمين } المخلصين أنفسهم لك.