التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
-الفتح

تيسير التفسير

{ إنَّ الَّذين يُبايعُونَك } يوم الحديبية على الموت، عند سلمة ابن الأكوع وعلى، أن لا يفروا عند ابن عمر وجابر، وفى البخارى ومسلم عن زيد بن عبيد، قلت لسلمة بن الأكوع: على أى شىء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: على الموت، وفى مسلم، عن معقل بن يسار: لقد رأيتنى يوم الشجرة والنبى صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه صلى الله عليه وسلم، ونحن اربع عشر مائة، ولم نبايعه على الموت، بل على أن لا نفر، ويجمع بين الحديثين بأن جماعة بايعته على الموت يقاتلون حتى يموتوا أو ينصروا، أو يكون امر من الله عز وجل، منهم: سلمة وجماعة على أن لا يفروا، منهم: معقل، والمضارع للحال الماضية المحكية.
وقيل: نزلت قبل الحديبية، فالمضارع للإستقبال كذا قيل، وليس كذلك، بل لحكاية الحال الماضية لأن الآية بعد المبايعة، والمبايعة الانقياد للطاعة، وفى ذلك تلويح الى قوله تعالى:
" { إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } " [التوبة: 111] الخ اذا بايعوه على الموت، وهذا فى قول ابن الأكوع، وبيعته الحديبية هذه بيعة الرضوان، والياء مشددة عند عامة المحدثين، وتخفيفها أفصح، وهى قرية ليست كبيرة، بينها وبين مكة مرحلة أو أقل، سميت ببئر هنالك، وجاء فى الحديث: "أن الحديبية بئر" ويقال شجرة حدباء، ولعلها حدبت عليه صلى الله عليه وسلم وقيل: كانت حدباء قبل نزوله.
{ إنَّما يُبايعُون الله } يُطيعون الله، وسمى اطاعته مبايعة لمشاكلة قوله تعالى: { يبايعونك } أو سماها مبايعة تسمية للمسبب أو اللازم بلفظ السبب أو الملزوم، فان المبالغة تستلزم الطاعة وتتسبب لها، وانما كانت مبايعته صلى الله عليه وسلم مبايعة لله تعالى، لأن المقصود من مبايعته امتثال أوامره { يَد الله فوق أيديهم } منة الله تعالى بالهداية فوق نعمهم التى هى مبايعة كل واحد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانه الذى وفقهم للمبايعة، قال الله تعالى:
" { يمنون عليك أنْ أسلموا قل لا تَمنُّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أنْ هداكم للإيمان } "[الحجرات: 17] وقال الزجاج: يد الله فى الوفاء فوق أيديهم فيه، أو يد الله فى الثواب فوق أيديهم فى الطاعة، كما قال الزجاج، أو قوته تعالى ونصرته فوق قوتهم فيها، فثق بنصره تعالى لا بنصرتهم، ولو بايعوك، وذكر ذلك بيد الله مشاكلة لقوله: { أيديهم } أو أيديهم على شاهدها.
ويد الله نعمته أو ما مرّ، وعلى كل حال من يطع الرسول فقد اطاع الله، كما قال الله عز وجل، وقيل: وفى اليد استعارة تخييلية مبنية على استعارة مكنية، هى أنه شبه الله تعالى بانسان مبايع، ورمز لذلك بلازم الانسان، وهو اليد، قلت: يقبح أن يقال: شبه الله بكذا، ولو كان المعنى على غير التشبيه، والا فقل شبه فعله تعالى وهو نصره، لأن فعله تعالى مخلوق له تعالى بالانسان، ورمز باليد.
والحاصل مطلقا أن عقد الميثاق معه صلى الله عليه وسلم عقد له مع الله تعالى، والله منزه عن الجوارح، وأخطأ من أثبت اليد وقال بلا كيف فما يفيده قوله: بلا كيف، والجملة مستأنفة أو خبر ثان لأن.
{ فمن نكَثَ } نَقَضَ العهد { فإنَّما ينْكُث عَلى نَفْسه } يجنى على نفسه بالنكث وضرره عليه، قال جابر بن عبد الله: ما نكث البيعة إلا جد بن قيس، وكان منافقا، وقيل: لم يبايع، اختبأ تحت بطن بعير، ففى مسلم: سئل جابر: كم كانُوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، وعمر رضى الله عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة، وهى سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصارى، اختفى تحت بطن بعيره، وهذا أوفق بقوله تعالى:
" { لقد رضي الله عن المؤمنين إذْ يبايعونك } " [الفتح: 18] فأسند المبايعه الى المؤمنين، وليس جد بن قيس مؤمنا بل منافقا إلا أنه يحتمل الجمع بأنه وافق أولا على المبايعة، ولما كان انجاز المبايعة بعد تحت الشجرة، لم يبايع، والآية تدل على وجوب الامامة الكبرى، ونصح الناس، وكل آية أوجبت الاقامة للعدل أو اقامة للدين، فهى موجبة بالامامة، فهى من القرآن استنباطا، وكذا فى الأحاديث.
وكذا ذكره صلى الله عليه وسلم امامة الصديق، وامامة عمر لعائشة وحفصة، وأوصى الصديق بها على عمر، وجعلها عمر شورى، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر باتباع الأئمة ما داموا على الحق فوجوبها بشرع، وزعم أبى حظو البلخى والبصرى من المعتزلة: أن نصب الامامة واجب على الله تعالى، وهو خطأ فانه لا واجب على الله ولا محرم، وكذلك قالت الامامة من الشيعة كالمعتزلة،انما يجب الشىء أو يحرم من الأعلى على الأدنين، ولا أعلى من الله، ولا مساوى، ومعنى:
" { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } " [الروم: 47] وقوله تعالى: "حرمت الظلم على نفسي" حكمت بذلك.
وقالت الخوارج والأصح من المعتزلة، أنه لا يجب على الناس نصب الامام، ومنهم من قال بوجوب نصبه عند ظهور الفتن، ومنهم من عكس، والحق وجوب نصب الامام اذا أمكن، لأن أمرنا باق من الدين، ولا سبيل الى اقامته الا بوجود الامامات على أنفس الناس واهلهم وأموالهم، ومنع تعدى بعض على بعض، وذلك لا يصح الا بوجود امام يخافون سطوته، ويرجون رحمته، ويرجعون اليه، ويجتمعون عليه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فنصب الامام واجب، وجب أن يكون واحد لئلا يختلفا، فيكون الفساد.
ولا يجب أن يكون الامام أفضل القوم خلافا للاسماعيلية المنسوبين الى اسماعيل بن جعفر الصادق، المدفون بالقرب من البقيع، المسمى بالباطنية، لقولهم: لكل ظاهر باطن، وبالصلاحات لعدولهم قصدا عن ظواهر الشرع الى بواطن يدعونها فى بعض الأحوال، وذلك تحريف وخروج عن الدين، وليس ذلك تصوفا لأن المتصوف يثبت الظاهر ويستنبط منه معنى باشارة، ويكون الامام من قريش اذا وجد وصلح، لا امامة والا فمن غيرهم، ولا يجب أن يكون من بنى هاشم.
وزعم الرافضة أنه لا بد أن يكون به علويا، وقيل: ان لم يوجد قريشى فمن كنانة، وينعزل بالفسق ان أصر عليه خلافا للأشعرية، وذكر ابن العربى: أنه اذا كان الامام لا ينظر فى أحوال الناس، ولا يمشى فيهم بالعدل، فقد أزال نفسه من الامامة فى نفس الأمر دون الظاهر، واختار أنه اذا فسق انعزل فيما فسق فيه، لأنه لم يحكم فيه بما انزل الله تعالى، وقد أثبت لهم فى الحديث اسم الامامة ولو جاروا.
ولا يكون الامام بدويّاً أو عبدا أو طفلا أو جبانا، أو أعمى أو أصم أو أبكم، أو لا رأى له، وان لم يجدوا إلا بدويا نصبوه.
{ ومَن أوفَى بما عاهد عليْه الله فَسيؤتيه أجْراً عظِيماً } من اسم شرط، وأوفى فعل ماض لا اسم تفضيل، وهو مرادف لِوَفَّى، والأجر العظيم الجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.