التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
-المائدة

تيسير التفسير

{ اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ } كرر ذكر إِحلال الطيبات للتأْكيد، أَو كأَنه قيل: اليوم أُحل لكم الطيبات التى سأَلتم عنها أَو الأَول بيان للحكم والثانى امتنان وذكر لمزيد فضله وليعلم بقاء هذا الحكم بعد تمام الدين، والطيبات المستلذات وهن ما فيه نفع ولو تفاوتت اللذة والنفع مما لم يجىء تحريمه، واليوم يوم أَنزلت الآية هذه أَو اليوم المذكور فى قوله عز وجل { { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [المائدة: 3] وقوله { اليوم أَكملت لكم دينكم وأَتممت عليكم نعمتى } [المائدة: 3] فالمراد أَنه كما أَكمل الدين وأَتم النعمة بما مر فى محله أَتم النعمة بإِحلال الطيبات وأَنت خبير بأَن الأَولى أَن الأَيام الثلاثة زمان واحد كرر للتأْكيد ولاختلاف الأَحداث الواقعة فيه وهو وقت النزول وما يليه على الاستمرار كما مر وقد يقال عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال هذه أَيام فلان أَى هذا زمان ظهوركم وشرع الإِسلام فقد أَكملت بهذا دينكم وأَحللت لكم الطيبات { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } اليهود والنصارى والصابئين وذلك مذهب الجمهور وقال أَبو يوسف وصاحبه محمد: تجوز ذبيحة من يقرأ الكتاب منهم كالزبور ويعبد الملائكة لا من لا يقرؤه منهم ويعبد النجوم وهو حسن، وينبغى حمل كلام أَصحابناعليه إِذ لا كتاب لهذا النوع فكيف يحكم لهم بحكم أَهل الكتاب. { حِلٌّ لَكُمْ } وطعامهم ذبائحهم وسائر أَطعمتهم، كما أَنه صلى الله عليه وسلم والصحابة يأْكلون طعام أَهل الشام ويلبسون ثيابهم وهم روم متنصرون، وطعام خيبر والنضير ونحوهما وأَهلها يهود وليسوا يعطون الجزية يومئذ، وبإِطلاق الآية، وما ذكر تمسك من أَباح ذبائح أَهل الكتاب وطعامهم وبللهم ولو حربيين، واشترط جمهور أَصحابنا لإِباحة ذلك إِعطاء الجزية، وجمهور الأُمة على حل ذبائحهم ولو ذبحوا على اسم عيسى أَو عزيرا ولم يختتنوا لأَن الله جل وعلا قد علم ذلك منهم فأَباحها لنا، وقال الحسن: إِن ذكروا غير الله بحضرتك على ذبيحة فلا تأكلها وكل ما لم تحضرها، وقال ابن عباس أَنه لا تحل ذبائح من يذبح على اسم عيسى أَو غيره لإِطلاق الآية الأُخرى تحريم ما أَهل به لغير الله والجمهور على أَن ذكر أَهل الكتاب تعميما لأَحوالهم تخصيص من تحريم ما أُهل به لغير الله عز وجل، ولا يحل ذبائح من تمسك بصحف إبراهيم عليه السلام وترك التوراة والإِنجيل ولا ذبائح المجوس ونسائهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أَهل الكتاب" ، أَى فى الجزية خاصة كما صرحت به رواية، وروى البيهقى وعبد الرزاق قبله عن الحسن بن محمد بن على: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى مجوس هجر من أَسلم قبل ومن أَصر منهم ضربت عليه الجزية غير ناكح نساءَهم، وفى رواية ولا محلى ذبائحهم، ولا تحل ذبائح نصارى العرب كتغلب أَو يهود العرب، قال على: لا تحل ذبائح نصارى تغلب لأَنهم لم يأخذوا عن النصرانية إِلا شرب الخمر، ومفهومه أَنه تجوز ذبائح من تنصر من العرب وتدين بالإِنجيل ولو خالف فى بعض أَو جل، وتجوز عند الحنفية مطلقاً وقيل لا تجوز ذبيحة من تنصر أَو تهود من العرب بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَباح ابن عباس وأَبو حنيفة ذبائح نصارى العرب والذبائح تابعة للنكاح، وقالت الإِمامية من الشيعة وجماعة من الزيدية أَنه لا تحل ذبائح أَهل الكتاب وأَن الطعام فى الآية غير الذبائح وذلك خطأ. { وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ } تتميم لما قيل، أَى لا كالنساءِ حلت لكم نساءُهم ولم تحل لهم نساؤكم، والطعام ما يؤكل ولا داعى إِلى تأَويله بالإِطعام كما زعم الزجاج أَن المعنى يحل لكم أَن تطعموهم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أَن التحليل يعود على إِطعامنا إِياهم لا إِليهم لأَنه لا يمتنع أَن يحرم الله تعالى أَن نطعمهم من ذبائحنا ففائدة قوله عز وجل على هذا إِفادة إِباحة إِطعامنا هم أَى فأَطعموهم من طعامكم وبيعوه لهم وهبوا وآجروا ولو حرم عليهم كلحم الإِبل، ودينهم منسوخ وقد حل لهم فى ديننا فيجوز أَن نبيع لهم ونحو ذلك ولو حرم فى دينهم الأَول فذلك جواب عن أَن يقال كيف يحتاجون إِلى بياننا وهم كفار وجواب يرد على من قال أَن الآية دلت على خطاب الكافر بالفروع إِذ حكم لهم بحل طعامنا لهم. { وَالْمُحْصَنَاتُ } اللاتى لا يزنين مبتدأ خبره مع ما عطف عليه محذوف أَى حل. { مِنَ المُؤْمِنَاتِ } الموحدات { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الحرائر، وعن ابن عمر أَن المراد بالمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من أَسلمن منهم وهو خلاف الظاهر، فإِذا شرط فى المؤمنات عدم الزنى فأَولى أَن يشترط فى الكتابيات أَو المراد بالمحصنات من المؤمنات الحرائر أَيضا إِذ لا يجوز تزوج الأَمة ولو مؤمنة إِلا إِن لم يستطع الحرة على ظاهر القرآن، وزعم قومنا أَنه يجوز تزوج الموحدة الزانية إِجماعا، فيحفظها زوجها ولا يجز عندنا تزوج الأَمة الكتابية ولا التسرى لها، وأَجاز ابن عباد منا وأَبوحنيفة تسريها وأَجاز أَبو حنيفة تزوجها ومنع الشافعى تزوجها وتسريها مثلنا لقيد الإِحصان، فزعمت الحنفية أَنما يعتبر القيد إِذا لم تكن فائدة سوى الدلالة على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد وفي الآية فائدة سواها هى البعث على ما هو أَولى ولها تحل الحربية ولو حرة عندنا وهو قول ابن عباس لبعد شأَنها ولأَن التزوج بر وقد قال الله جل وعلا { إِنما ينهاكم } [الممتحنة: 9] إِلخ. وقال الله عز وجل: { لا تجد قوما.. } [المجادلة: 22] إِلخ وقال: { ومن ءَايَٰتِهِ أَن خلق لكم من أَنفسكم أَزواجا لتسكنوا إِليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [الروم: 21] وكيف يكون الود والرحمة للكافرة، ويستثنى من ذلك الحب الممنوع مقدار مخصوص للكتابية التى ليست محاربة فيجوز فى حقها لها على متزوجها كما قال الحنفية: أَهل الذمة محمديون على أَحكام الإسلام فى البيوع والمواريث فيما بينهم وسائر العقود إِلا بيع الخمر والخنزير، فيقرون عليه وأَنهم لا يرجمون لأَنهم غير محصنين، وذهب بعض إِلى أَن هؤلاءِ الآيات تفيد الكراهة فقط. وعن الشافعى كراهة تزوج الحرة الكتابية المحاربة، وأَباحها الشافعية، وقال الحسن: المحصنات العفائف. { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } مهورهن لأَنها أَجرة الحمل والرضاع والتربية والوطءِ كأَجر العامل، واقتصر ابن عباس على التمتع لأَنه المتيقن والمقصود بالذات غالبا، وإِذا يتعلق بحل المقدر خارج عن الشرط أَو باق عليه وعلى الصدر فيقدر جواب يتعلق به أَى فهن حل والظاهر الأَول، والمراد بإِيتاءِ الأُجور العقد بلا نفى أَجر أنقد الأَجر أَو بعض أَو أَجل كله أَو لم يذكر معلوما ولا مجهولا ولا مجملا فيلحق، وأَما إِن عقد على أَن لا أَجر فالعقد باطل يعاد وإِن دخل حرمت لأَن ذلك غير عقد، وقيل لا تحرم فيحكم بالمهر أَو بالمثل كما إِذا لم ينف ولم يسم، وتفسير الإِيتاءِ بما ذكر تفسير بصفة السلب وهو أَعم فائدة من تفسيره بالتزام الأَجر، وبالتعبير عن السبب بالمسبب ويجوز إِبقاء اللفظ على ظاهره حثا على نقد الصداق لأَنه أَكمل كأَنه يجب النقد وليس بواجب وليس بقيد للحل. { مُحْصِنِينَ } مريدين للإِحصان وهو التزوج أَو للعفة بالتزوج { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } مجاهرين بالزنى، { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } صواحب للزنى بهن غير مجاهرين به، والواحد والواحدة خدن بكسر فإسكان، كان الجاهلية يعيبون الجاهر بالزنى لا السار به وعابهما الله جميعا، والعطف على مسافحين ولا صلة ولا يتصور العطف على غير مع أَن لا صلة لأَن الاتخاذ حينئذ مثبت والمراد نفيه إِلا أَن جعلنا لا اسما معطوفا على غير مضافا لمتخذى فالاتخاذ منفى بلا كما نفى فى الوجه الأَول بالعطف على مدخول غير { ومَنْ يَكْفُرْ } يرتد بعد إِيمان { بالإِيمَانِ } عن الإِيمان أَى عن شرائع الإِسلام، فالإِيمان مصدر بمعنى مفعول أَى بالمؤمن به بفتح الميم الثانية { فَقَدْ حَبِطَ } إِن لم يتب كما فى الآية الأُخرى { عَمَلُهُ } ما عمله قبل الردة من الصلاخ { وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } ثواب أَعمالهم، وقيل يبطل ثواب ما قبل الردة ولو تاب بعدها، ويجوز حمل الآية على الإِشراك بمعنى أَنه لا يثاب ما عمل من الصلاح فى الآخرة، ومن متعلق باستقرار، أَو بصلة (الـ) على التوسع فى الظروف وأَما أَن تجعل ( الـ) حرف تعريف فليس ذلك إِلينا بل لابد هى اسم موصول، نعم إِن بنينا على قول من نفى الموصولية (لألـ) مطلقا.