التفاسير

< >
عرض

وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٩٢
لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٣
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
-المائدة

تيسير التفسير

{ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فيما أَمر به الله ورسوله، { واحْذَرُوا } المخالفة في أَمر الله ورسوله وفيما نهى الله ورسوله عنه كالخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام، فهذا تأْكيد لتحريمهن بذكر الله ورسوله معاً وتكرير الإِطاعة وذكر الحذر تعميماً لهن ولغيرهن، وزاد تأكيداً آخر بقوله: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } عن الإِطاعة والحذر فجزاؤكم علينا لا على الرسول، ولم تضروا بتوليكم الرسول { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ } أَى تحصيل البلاغ للوحى، فهو مصدر، أَو التبليغ فهو اسم مصدر، وقد بلغ فما ضررتم إِلا أَنفسكم، ولما أَلفوا الخمر تحرا وشرباً وإِزالة للهم بشربها كان تحريمها تدريجاً فنزل قوله تعالى " { يسأَلونك عن الخمر } " [البقرة: 219] إلخ فتركها بعض تحرجاً عن إِثمها وبقى بعض على منافعها، فنزل " { لا تقربوا الصلاة وأَنتم سكارى } " [النساء: 43] فتركها بعض وقال بعض نشربها ونقعد في بيوتنا حتى لا نضر أَحداً، وشربها بعض حين لا تضر بالصلاة حتى نزل إِنما الخمر، إِلى فهل أَنتم منتهون، فقالوا: انتهينا يا ربنا، وذلك سنة ثلاث من الهجرة، فقال أَبو بكر وغيره: كيف حال من مات وقد شربها وأَكل الميسر من المؤمنين يا رسول الله، فنزل قوله تعالى:
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الأَحياءِ والأَموات { جُنَاحٌ فِيمَا طَعمُوا } أَكلوا مما لم يحرم، ولو حرم بعد كالخمر والميسر، والطعم شامل للشرب كقوله تعالى
{ { ومن لم يطعمه } [البقرة: 249] - أَى الماء فإِنه منى، وقيل نزلت الآية في الرد على الذين أَرادوا الترهب وقد مر ذكرهم { إِذَا ما اتَّقَوْا } نزل تحريمه عليهم { وآمَنُوا } وثبتوا على الإِيمان، أَو ازدادوا إِيماناً { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ثبتوا على عملها، أَو ازدادوا منها { ثُمَّ اتَّقَوْا } ما حرم بعد، وهم أَحياء كالخمر والميسر { وآمَنُوا } بتحريمه { ثُمَّ اتَّقَوْا } داموا على اتقائهما واتقاءَ سائر المعاصى، والجناح في ترك الاتقاء والإِيمان وعمل الصالحات لا فى تناول المباح عند الترك لذلك، فقوله إِذا ما اتقوا إِلخ لم يذكر لتقييد نفى الجناح عنهم بتحقق الإِيمان والتقوى والعمل الصالح، بل ذكر لمدحهم فإِنه تم جواب سؤال: كيف حال إِخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأْكلون الميسر فى قوله طعموا بدليل { وَأَحْسَنُوا واللهُ يُحِبُّ المحْسِنينَ } فإِنه لا يناسب الختم به كون قوله إِذا ما اتقوا إِلخ قيد نفى الجناح بتحقيق الإِيمان وما بعده، ويحتمل أَن يكون التكرير باعتبار ما قبل زمان تحريم الخمر والميسر وزمان تحريمهما وما بعد تحريمهما، أَو زمان الشباب وزمان الكهولة وزمان الشيخوخة، أَو زمان ابتداء الإِيمان وزمان الوفاة وما بينهما. والمراد أَحسنوا على الاستمرار والثبات على الاتقاءِ، والترتيب في ذلك باعتبار الزمان، ويجوز أَن يكون باعتبار الرتبة؛ لأَن الثبوت على الشئ فوق إِحداثه قال:

لكل إِلى جنب العلا حركات ولكن عزيز فى الرجال ثبات

ومن تراخى الرتبة فأْولاها ترك المحرم خوف العقاب أَو رجاءَ الجنة، وبعده ترك الشبهات أَن لا يقع في الحرام، وبعد هذا ترك بعض المباح تحفظاً عن الخسة وتهذيباً عن دنس الطبع، أَو مرتبة خلوه ثم مرتبة اجتماعه مع الناس ثم مرتبة خلوه مع ربه، يستعمل التقوى والإِيمان فيهن، أَو مرتبة الإِيمان التقليدى ثم اليقينى ثم العيانى، أَو التقوى الأُولى ترك الحرام والثانية الدوام عليه والثالثة انتفاء الظلم، وفي الحديث: "الإِحسان أَن تعبد الله كأّنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك" ، والتقوى تتبين في الأَمر الصعب، وفى الأَمر السهل فاختبر الله فى السهل المسلمين بتحريم الصيد وهم محرمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة وقت الحديبية، وكثر عليهم حتى كان يقع فى رحالهم ويتمكنون في أَخذه باليد والضرب بالسيف والطعن بالرمح كما اختبر بنى إِسرائيل بتحريم صيد البحر في السبت وأَرسله عليهم حتى كان يغطى وجه الماء كما قال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَئٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فالآية نزلت قبل الحديبية وجعلت في هذا المحل، والسورة مدنية، إِلا
" { اليوم أكملت لكم دينكم } "[المائدة: 3] إِلخ، فمكى، وقيل: نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة، أَى والله لا يعاملنكم معاملة المختبر بتحريم شئ ثابت من الصيد البرى، أَى هو الصيد البرى أَو بعض مطلق الصيد، والبعض هو البرى والصيد بمعنى الوحش، والمراد المأَكول وغير المأكول لا بمعنى الاصطياد، لأَن الوصف بأَنه تناله الأَيدى والرماح لا يناسبه متبادر أَو لو احتمله، بمعنى تحصل الأَيدى والرماح اصطياده، وعن ابن عباس: الذى تناله الأَيدى فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والضعيف بمرض أَو غيره، والذى تناله الرماح الكبار الصحاح، وقيل: الذى تناله الأَيدى والرماح صيد الحرم لأَنه يأْنس بالناس ولا ينفر كما ينفر بالحل، وقيل: ما قرب وما بعد، وذكر بعض أَنه خص الأَيدى بالذكر لأَنها أَعظم تصرفاً في الاصطيادِ، وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأَيدي من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأَنها أَعظم ما يجرح به الصيد، ويدخل فيها السهم ونحوه { لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافَهُ بِالغَيْبِ } أَى ليعلم أَولياءَ الله أَو جند الله، فالتجاوز بالحذف أَو العلم مجاز في معنى التمييز، لأَن العلم بالشئ يستلزم تمييز ذلك الشئ، وتمييزه بكسر الياء مستلزم لظهروه ولتميزه بضم الياء أَو علمه سبب لإِظهاره وإِظهاره سبب لظهوره فذلك مجاز لغوى بمرتبتين، أَو المعنى ليعاملكم معاملة من يمتحن الشئَ ليعلمه، أَو المعنى: ليتعلق علمه الأَزلى بمن يخاف، فالحدوث في التعلق لا في العلم، فالمتجدد المعلومات وحدوثها لا العلم، فالعلم مجاز عن تعلقه بالمعلوم على طريق الملزوم، أَو السبب وإِرادة اللازم أَو المسبب، أَى ليتعلق علمه الأَزلى بوجود الخائف من عقابه تعلقه به قبل وجوده بأَنه سيوجد، وعلمه أَزلى ذاتى لا يتجدد؛ لأَن صفته هو، والغيب غيب عقابه أَو عدم مشاهدته الله فمن خاف مع الغيب فهو قوى الإِيمان، مع أَن الصيد ليس بأَمر عظيم على النفوس كما يعظم عليها القتل وبذل المال بل هو أَمر حقير قليل كما أَشار إِليه بقوله بشئ، فمن لم يثبت عند الأَمر الحقير فكيف يثبت عند العظيم، وذلك لضعف إِيمانه فيرتكب المحذور فيعاقب. { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } أَى بعد بيان أَن ما وقع من كثرة الوحش بحضرتهم ابتلاء، وقيل بعد التحريم والنهى، ورد بأَن التحريم والنهى ليسا أَمراً حادثاً ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل بعد الابتلاء، ورد بأَن الابتلاء نفسه لا يصلح مدار العذاب، { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالتعزير، فإِنه يضرب ظهره وبطنه ضرباً وجيعاً ليرتدع هو وغيره، كما روى عن ابن عباس، وروى قومنا عنه أَنه ينزع ثيابه، والصيد عندنا وعند أبى حنيفة الممتنع المتوحش ولو حرم أَكله أَو كره كالأَسد والذئب، فمن صاده ضمن قيمته، وقال زفر: شاة، والتفضيل في الفروع، وقال الشافعي: الصيد اسم لما يؤكل فلا جزاءَ عنده على محرم الأَكل ويدل لنا قول على:

صيد الملوك أَرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدى الأَبطال

والثعالب من السباع، وقيل: لا، ويجوز رجوع الإِشارة إِلى النهى عن تحريم الصيد، أَو إِلى تحريمه، وجازا للابتداء لترتب عذاب المتعدى عليهم، إِذا لو لم يكن نهى وتحريم لم يتصور الاعتداء فضلا عما يترتب عليه من العذاب الأَليم، ولو لم يكن الابتلاء لم يكن الاعتداء، ولما كان الابتلاء وهو التكليف ترتب الاعتداء فالعذاب.