التفاسير

< >
عرض

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
٣٨
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ } أَى وما من دابة تمشى فى الأَرض، كما ذكر يطير فى مقابلها، وسواء علقنا فى الأَرض بتمشى أَو بدابة أَو بمحذوف نعت لدابة، أَى ثابتة فى الأَرض، وذكر الأَرض زيادة فى الاستغراق، أَى فى قطر ما من أَقطار الأَرض وفى ظهرها وجوفها، وقال السكاكى ذكر فى الأَرض مع دابة ويطير بجناحيه مع طائر لبيان القصد بدابة وطائر الجنسين وتقريرهما { وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } أَى فى الهواء كما ذكر فى الأَرض فى مقابله أَى فى ناحية من نواحى الجو فلزيادة هذا الاستغراق، وذكر يطير بجناحيه. وأَيضاً ذكره لئلا يتوهم أَن المراد بالطيران السرعة على التجوز { إِلاَّ أُمَمٌ } خبر دابة { أَمْثَالُكُمْ } بمعنى أَن كل نوع من أَنواع الدواب فى الأَرض وكل نوع من أَنواع الطير هو أَمة قدر الله على إِيجاده وإِبقائه ورزقه وحفظه وأَجله، وكيف لا يقدر على إِنزال آية، ومعنى المماثلة أَن سائر الحيوان مثلكم، فكما أَقررتم على أَنفسكم بجريان قضاء الله عليكم فكذا أَجرى على غيركم، وفى أنها تنسج كالعنكبوت، وتدخر كالنمل وتعرف الله وتسبحه وتعبده، ويألف بعضها بعضا، ويفهم بعض عن بعض، ويألف بعض بعضاً، ويتعارف الذكر والأُنثى، ويتزوج الطير فى الربيع وتبعث للحساب، وجمع الأُمة لإِرادة النوع كما رأَيت، ولا يكفى أَن نقول جمع لأَن النكرة فى سياق السلب تعم. لأَن هذا بمجرده يفيد أَن كل فرد أمة وليس كذلك، والمراد بالأَرض ما ليس بجو فشملت الماءَ فيدخل حيوان الماء، فتنقله فى الماء كتنقل الحيوان فى الأَرض، كما أَنها شاملة للجبال والشجر، وذكر الطائر مع أَنه يدب فى الأَرض زيادة بالطيران، ولأَن من الطير ما خلق فى الهواء ولا ينزل للأَرض، وأَلحق بعضهم الحوت بالطير إِذ يسبح فى الماء كالطائر فى الهواء، وذكر بجناحيه تأَكيداً، وقيل لئلا يتوهم أَن المراد بالطيران مطلق السرعة وهو توهم بعيد مع أَنه لا يقطع التوهم رأْساً لجواز أَن يكون ترشيحاً لطيران مستعار للسرعة، ولو عملنا بهذا التوهم انفتحت إِليه كل حقيقة فتدخل فى المجاز، وقيل ذكر فى الأَرض ويطير للدلالة على أَن المراد الاستغراق الكلى لا عموم دوام أَرض مخصوصة وطير جو مخصوص عموماً عرفياً، وخص الأَرض دون السماء لأَنها المشاهدة ثم إنه لو لم يشمل عمومها بعضاً لجاز لأَن المراد الدلالة على كمال القدرة ولو بذكر أَحوال بعض الممكنات، أَلا ترى أَنه لم يذكر ما يدب فى السماوات { مَا فَرَّطْنَا } ضيعنا أَو تركنا { فِى الْكِتَابِ مِنْ شَئٍ } ما ضيعنا شيئاً بترك كتابته فى اللوح المحفوظ، وسمى محفوظاً لأَنه حفظ عن الشيطان، ومن تغيره، ولا خفاء فى العموم الحقيقى بخلاف ما إِذا فسرنا الكتاب بالقرآن فالعموم فيه عرفى بحسب ما يحتاج إِليه المكلف، إِما تفصيلا وإِما إِجمالا يفصله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أَو بالقياس، أَو بحسب الإِيماء، أَلا ترى إِلى قوله عز وجل " { فاعتبروا يا أولى الأَبصار } " [الحشر: 2] ونحو هذا فإِنه أَذن فى القياس لأَهله، وقوله تعالى " { وما ءَاتٰاكم الرسول فخذوه } "[الحشر: 7] فإِنه إِشارة إِلى الحديث: "اعملوا بالخليفتين من بعدى، أَبى بكر وعمر، وبسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" ، وقد قال ابن مسعود: لعنت الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة فى القرآن، فقالت امرأَة: تلوته البارحة وليس فيه ذلك، فقال: لعنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصداقه" { وما ءَاتٰاكم الرسول فخذوه } "[الحشر: 7] ولو شاءَ لأَجاب بقوله تعالى " { فليغيرن خلق الله } " [النساء: 119] وقال الشافعى فى المسجد الحرام: لا تسأَلونى عن شئ إِلا أَجبتكم بكتاب الله عز وجل، فقال رجل: أَيحل للمحرم قتل الزنبور؟ فقال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" ، وذكر إِسناداً إِلى عمر أَنه قال: للمحرم قتل الزنبور، فذلك إِجابة بالقرآن على ثلاث درجات، ولو شاءَ لأَجاب بالقرآن بلا واسطة على مذهبه فى: حرم عليكم صيد البر، والزنبور ليس صيداً فليس مما حرم، ولو شاءَ لأَجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا كل مؤذ فى الحل والحرم" ، مع قوله تعالى " { وما ءَاتٰاكم الرسول فخذوه } "[الحشر: 7] ففى القرآن كل ما يحتاج إِليه وزيادة يستخرج بعضه مستخرجه بقوة فهمه بإِذن الله، ومنه منع ضرب القدمين، بقوله تعالى: " { واضربوا منهم كل بنان } " [الأَنفال: 12] إِذا كان إِغراءً بالأَشد فى الهلاك، وعدى فرط للمفعول لتضمنه معنى ضيع، أَو ترك أَو أَهمل، ويجوز أَن يكون شيء مفعول مطلقاً، أَى ما فرطنا تفريطاً، فالعموم فى التفريط لا فى كل الأَشياء ولا فى الأَمر المكلف به { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } أَى يحشر الأُمم إِلى ربهم للجزاء حتى يأْخذ للجماء من القرناء، ثم يقول لهم: كونوا تراباً، وذكر الدواب والطير بضمير العقلاء وهو هم والواو تغليباً للعقلاء، وإِن أريد بالدابة غير العقلاء فلأِجرائه وإِجراء الطير مجرى العقلاء فى وجوه المماثلة المذكورة فى قوله أَمثالكم، ومن المماثلة حشرها وحسابها كما رأَيت، ولفظ مسلم، "لتؤدون الحقوق إِلى أَهلها حتى يقاد للشاة الجماء من القرناء" ، وليس هذا جزاء تكليف خلافاً لمن زعم أَن للحيوانات رسلا منها، ولعل منشأَ ذلك التوهم من قوله تعالى " { وأَوحى ربك إِلى النحل } " [النحل: 68] وذلك خطأ، ونسب للجاحظ وغيره، وأَخطأَ من قال ذلك ومثله من تكليف الحيوانات ونحوه، وإِنما يلهمها الله ما يشاء من تمييز كصنعة النحل والعنكبوت، وأَما قوله صلى الله عليه وسلم للأَنصار إِذ ازحموا على زمام ناقته حين هاجر: "دعوها فإِنها مأْمورة" ، فمعناه أَن زمامها فى يد ملك يجرها إِلى موضع قضى الله تعالى بالنزول فيه وسكناه، ويسوقها ملك إِليه، وإِذا وصلته أَناخها، أَو إِذا وصلته أَبركها الله عز وجل بالتكوين. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: حشر الحيوانات موتها، وحمل الآيات على عموم العدل رده حديث: حتى يقاد للجماء، إِلا أَن يقال بالترشيح.