التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ما جعلوا لله قدرا يليق به، أَى وصفا، لكن لا يمكن الوصول إِلى غاية ذلك، وهذا أَولى من أَن يقال: المراد قدره فى الرحمة لعباده وفى السخط على الكفار وشدة البطش حين جسروا على قول السوءِ، فإِنه لا يناسب قوله { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَئٍ } فإِن هذا يناسب أَن يراد بالقدر العظمة ومنها التوحيد المنافى لإِنكار الإِنزال على بشر، ومن معانى القدر العظمة، أَى ما عظموه حتى عظمته، ويقال: ما عرفوا الله حق معرفته، والأَصل: وما قدروا الله قدره الحق، فأُضيفت الصفة للموصوف، ولا يلزم هذا، بل المتبادر أَن المراد شأن قدره، أَو رتبة قدره، متعلق بقدروا أَو بقدره. وقيل: حرف تعليل، قلت: هى ظرفية والتعليل مستفاد من مدخولها، والواو لليهود فنحاص بن عازوراءَ ومالك بن الصيف ومن رضى بقولهما، وهم نفر يسافرون لمكة عناداً، أَو أُريد واحد عظم فى السوء كعظم جماعة فى الشر، خاصم النبى صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَنشدك الله الذى أَنزل التوراة هل تجد فيها أَن الله يبغض الحبر السمين - وكان مالك كذلك - فقال: نعم. - وكان يحب إِخفاء ذلك لكن أَقر لإِقسام النبى صلى الله عليه وسلم - فقال النبى صلى الله عليه وسلم:أَنت حبر سمين، سمنت من أَكلتك التى تطعمك اليهود" ، فضحك القوم، وخجل مالك بن الصيف، أَى فيكون مبغوضاً، فغضب، والتفت إِلى عمر رضى الله عنه، وقال: ما أَنزل الله على بشر منشئ، فقال أَصحابه: ويحك، ولا على موسى؟ فقال: والله ما أَنزل الله على بشر من شئ. فلما سمعت اليهود بذلك وقالوا: أَليس الله أَنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا؟ قال: أَغضبنى محمد فقلته. فقالوا: وأَنت إِذا غضبت تقول على الله غير الحق، فعزلوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب بن الأَشرف لعنهما الله، وفى ذلك نزل: { وما قدروا الله حق قدره } وأَنت خبير بأَن القائلين سافروا إِلى مكة، فلا يعترض بأَن السورة مكية، وأَن القصة مدنية، وأَيضاً نزلت السورة مرتين فيما قيل، والآية على ظاهرها من نفى الأَنبياء كلهم وكتبهم كلها لثوران الغضب، والمراد بالذات نفى النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولكن حمله الغضب على نفى كل نبى وكل كتاب مبالغة فى نفى النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن، ليكون كنفى بحجة، وأَنت خبير أَن الله عز وجل أَنزل الآية مجازاة على لفظ لسانه المجاهر بالسوء ولو كان فى قلبه ثبوت التوراة كما صرح به عن نفسه، وفى ذلك أَن الغضبان المتعمد مؤاخذ بما قال أَو بما فعل، كالسكران بمحرم عمداً، وقال بعض على طريق الشكل الثالث: موسى بشر، موسى أنزل عليه كتاب، وهاتان قضيتان شخصيتان فى حكم الكليتين، والأُولى من قوة الآية، والثانية من صريحها، ينتج أَن بعض البشر أنزل عليه كتاب، وهذه النتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية اليهودية، وهى لا شئَ من البشر أنزل عليه كتاب، وأَجاب الله بأَن إِنزال القرآن من الجائز كما أَنزل التوراة على موسى، فقال { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثيراً } منها وهو ما صعب عليهم، وصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن إِخفائه ما صعب عليهم إِخفاء آية الرجم، وآية: إِن الله يبغض الحبر السمين { وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } وهذا نص فى أَن الآية فى اليهود لا كما قيل فى مشركى قريش، فإِن مشركى قريش لم يقرأُوا التوراة، ولم يجعلوا قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، ولا علموا ما لم يعلموا ولا آباؤهم إِلا أَن لهم بعض إِذعان لتوراة موسى، وشهرت عندهم، وكانوا يخالطونهم ويسأَلونهم عما فى التوراة. قال الله تعالى: { { أَن تقولوا إِنما أنزل الكتاب على طائفتين } [الأنعام: 156]. { { أَو تقولوا لو أَنا أنزل علينا الكتاب لكنا أَهدى منهم } [الأنعام: 157]. وإِلا أَن يراد علمتم بالقرآن ما لم تعلموا أَنتم ولا آباؤكم، ووقع ذلك فى المدينة، والسورة نزلت فى مكة، ونزلت فى المدينة مرة ثانية والقصة فى المدينة، وقبل نزلت فى مكة إِلا هذه ففى المدينة، ويروى أَن مالك بن الصيف كان يخرج مع نفر إِلى مكة معاندين. والمراد: وعلمتم أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إِليه بياناً لما التبس أَو أَخفاه من تقدم، وزيادة على التوراة أَن هذا القرآن يقص على بنى إِسرائيل أَكثر الذى هم فيه يختلفون، وقيل: الخطاب فى علمتم إِلخ لمن آمن من قريش، ونوراً حال من الهاء، أَو من الكتاب، هو فى نفسه نوراً، أَى ظاهر كالضوء اللامع وهدى... وتجعلونه إِلخ حال من الكتاب أَو من الهاء، ومعنى جعلها قراطيس جعلها فى قراطيس بحذف الجار، أَو بقدر تجعلونه ذا قراطيس، أَو تجعلون ظروفه قراطيس، وإِذا كان الخطاب كله لليهود فالمراد علمتم أَيها اليهود بالتوراة، أَو علمكم الله بالقرآن ما لم تعلموا زيادة وأَنكرتموه، كما قال: { { قد جاءَكم رسولنا يبين لكن كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } [المائدة: 15]، أَو من إِخفاء ما أَرادوا أَو إِنكاره أَو محوه أَو تبديله، وقيل ذلك الكثير لم يكتبوه فى القراطيس إِخفاء له والناس بنو إِسرائيل وغيرهم { قُلِ اللهُ } أَنزله الله، أَو الله أَنزله، أَو منزله الله، والأَول أَولى لورود الجواب بالفعلية فى قوله " { خلقهن العزيز العليم } "[الزخرف: 9] ووجه الأَوجُهِ الأَوجَهِ بعده أَن السؤال بالاسمية فليكن الجواب بها، أَما كان لا بد أَن يقروا بأَن الله أَنزله أَمره أَن يقوله، أَو كأَنهم دهشوا لافتضاحهم حتى لا يقدروا على رد الجواب فأَمره صلى الله عليه وسلم برد الجواب تنبيهاً على حيرتهم، أَو أَمره لأَنهم لا يقولون عناداً { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } باطلهم متعلق بذر، أَو بقوله { يَلْعَبُونَ } أَو بمحذوف حال من الهاء أَو من واو يلعبون، ويلعبون حال من هاء ذرهم، أَو من هاء خوضهم ولو كان مضافاً إِليه لأَن المضاف صالح لعمل الرفع والنصب لأَنه مصدر، وإِنما فى خوضهم حالا من الهاء جاز أَن يكون يلعبون حالا من المستتر، والأَمر بالجواب والإِعراض عنهم بعد الجواب يصح قبل نزول القتال وبعده فلا نسخ فلا تهم، ويلعبون يستهزئون.