التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام إِنكار أَى لا أَظلم لنفسه وللخلق ولدين الله { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً } مفعول به لافترى، أَى اختلق كذباً وأَنشأَه، ويضعف كونه مفعولا مطلقاً، وكونه حالا مؤكدة، أَى ذا كذب أَو كاذباً لأَن الافتراءَ أَخص من الكذب، فليس كقولك قمت وقوفاً، أَو قمت واقفاً، ولا يتبادر المعنى هنا بالنصب على التعليل. وافتراء الكذب أَن يقول: أَنا نبى، أَو أَنا رسول من الله، أَو ذلك ودعوى الولد والشريك، أَو ما أَنزل الله على بشر من شئ، { أَو قَالَ أُوحِىَ } أَى أَوحى الوحى، أَى ما من شأْنه أَن يوحى، أَو النائب هو قوله { إِلىَّ } وهو أَولى لأَن الأَول يشير إِليه لفظ أوحى مع أَنه معمول لأَوحى، ولا يتكرر قوله أوحى إِلىَّ مع قوله افترى على الله كذباً لاختلاف التلفظ، إِذ افتراء التلفظ أَن يقول: أَنا نبى أَو رسول وهو غير لفظ أَوحى إِلىَّ، وأَولى من ذلك أَن يقال: افترى على الله كذباً بمعنى أَرسل لله فلاناً أَو نباه وليس كذلك وغير ذلك، وذلك كمسيلمة وسجاح امرأَته والأَسود العنسى، فهم قالوا: أَنا نبى، وأَقوامهم قالوا كذباً عليهم أَن هؤلاء أَنبياء، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلوا فى خلافة الصديق، أَو قال أَباح الله عبادة غيره، أَو حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى ونحو ذلك من الافتراء فى دين الله عز وجل، ولا يقال: العطف تفسير أَو تفصيل لأَن ذلك لا يكون بأَو { وَلَمْ يُوحَ إِليْهِ } الهاء للمفترى، وقيل للنبى، والكلام مَنْ للمفترى والواو للعطف أَو للحال { شَئٌ } الجملة حال من ضمير قال { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ } من نفسى، وقيل معناه أَنا قادر على الإِنزال { مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ } عطف على من كعبد الله بن سعد بن أَبى سرح، إِذ قال فتبارك الله أحسن الخالقين بعد كتابته ما قبلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبها فإِنها نزلت كذلك" ، فارتد فقال: إِنى أوحى إِلى كما أوحى إِلى محمد، وإِن كان محمد كاذباً فقد قلت ما يقول، ومن لازم من أوحى إِليه فى الجملة أَن يوحى إِليه بعد أَو صرح بأَنه سيوحى إِلىَّ وأَسلم بعد، وكان فتح أَكثر بلاد الغرب على يديه، وككفار قريش إِذ قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، على معنى لقلنا بالوحى من الله مثل ذلك، وما قاله محمد إِلا ما سطره الأَولون من الوحى وليس موحى إِلى محمد وهم المستهزئون. { وَلَوْ تَرَى } يا محمد أَو يا من يصلح لأَن يرى، أَى ولو ترى الظالمين إِذ هم فى غمرات الموت، لكن لما حذف لزم الإِظهار وبطل الإِضمار، فقال { إِذ } ظرف للرؤية { الظَّالِمُونَ } المذكورون بالافتراء على الله، والقول أوحى إِلىَّ، والقول سأُنزل مثل ما أَنزل الله، ويجوز كون إِذ مفعولا لترى، أَى ولو شهدت ذلك الوقت بما فيه { فِى غَمَراتِ المَوْتِ } شداته، وكأَنهم تغمرهم سكراته، كما يغمر الماءَ من فيه، وجواب لو محذوف يقدر بعد تستكبرون، لرأَيت أَمراً فظيعاً، ويجوز أَن لو تمنية فلا جواب لها { وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيِهمْ } الجملة حال من ضمير قوله فى غمرات، أَو عطف على الاسمية قبلها، والمراد بسط الأَيدى بالعذاب بما قدروا عليه فى ضرب الوجوه والأَدبار بمقامع من حديد، أَو بسطها بعصر الأَرواح كالغريم الملح على من عليه الحق لا يؤخره لحظة، القائل لا أفارقك حتى أَنزع حقى من كبدك وحدقتك وقلبك { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } أَرواحكم إِلينا من أَبدانكم لنقبضها، وهذا مجاز مركب، إِذ لا قدرة لهم على إِخراج أَرواحهم إِلى الملائكة، وإِنما المراد الإِيذاء والتغليظ، كما أَن المراد التحسر لا ظاهر اللفظ كما فى قوله:

هواى مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثمانى بمكة موثق

ويروى أَن أَرواح الكفار تأْبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج، أَوخلصوا أَبدانكم من أَيدينا، أَو نحوها من عذابنا، أَو الأَمر للتعجيز، ويجوز كون ذلك استعارة مركبة للإلحاح والتشديد، والحمل على الحقيقة أَولى وهى الأَصل، والجملة محكية بحال محذوف، أَى قائلين أَخرجوا أَنفسكم { الْيَوْمَ } وقت غمرات الموت، أَو وقت الموت إِلى ما لا نهاية له متعلق بأَخرجوا، وفى أَخرجوا أَرواحكم اليوم أَى فى الدنيا، أَو خلصوا أَبدانكم من العذاب اليوم أَى فى الدنيا، والمتبادر تعليقه بقوله { تُجْزَوْنَ } واليوم وقت غمرات الموت، أَو يوم القيامة { عَذَابَ الْهُونِ } أَى الهوان، عذاب الموت أَو ما بعده، كقوله: { { أَيمسكه على هون } [النحل: 59]، أَى على هوان، وأُضيف العذاب للهون لأَصالته فى الهوان وتمكنه فيه، وللتحرز عن عذاب يكون للتأديب والزجر كضرب الأَدب والحدود والنكال، وكعذاب السعيد فى موته تطهيراً من الذنوب، أَو بولغ بأَنه نفس الهون فاعتبر النعت به أَى العذاب بالهون كما فى آية أُخرى، ثم أضيف إِليه { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ } أَى بكونكم تقولون، وتراهم يقدرون الخبر من مصدر خبر الكون زعما منهم أَن كان التى لها خبر لا مصدر لها وليس كذلك. فيقدرون بقولكم { غَيْرَ الْحَقِّ } كدعوى النبوءَة والإِيحاء لغير أَهلها، وإِنزال مثل ما أَنزل الله، ودعوى الولد والشريك، وغير مفعول به لتقولون نصب المفرد لتضمن معنى ذكر، أَو كأَنه فى معنى الجملة، فإِن قول: أَنا نبى، أَو لله ولد، ونحو ذلك جملة أَو نعت مصدر محذوف، أَى قولا غير الحق { وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ } عن تصديق آياته { تَسْتَكْبِرُونَ } تترفعونَ فلم تتأَملوا، فلم تؤمنوا بها أَو بالله، والمراد بالآيات النقلية أَو العقلية، أَو كلتاهما.