التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٤٣
-الأعراف

تيسير التفسير

{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } يوم الخميس يوم عرفة كلمه الله فيه وأَعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر، أَو ذلك يوم عاشوراء { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } صير الله الأَرض مظلمة مع الطور سبعة فراسخ أَو أَربعة من كل جهة حين جاءَ للمناجاة، وطرد شيطان موسى وهوام الأَرض، ونحى ملكيه وكشط السماءَ ورأَى العرش والملائكة عابدين لله فى الهواء، وسمع صرير أَقلام الملائكة وكلمة الله، ولم يسمع جبريل مع أَنه معه، أَنشأَ الله له كلاما وسمعه من كل جهة وفى جميع جسده، خلقه الله فى ذلك أَو حيث شاءَ من الهواء أَو من الشجر أَو من الأَرض أَو من الجبل فسمعه حروفاً وأَصواتاً، وروى أَنه كلمه باثنى عشر مائة لغة ولم يفهم حتى كلمه بلغته، وأَول ما كلمه بلغة البربر وذاك أَلف ومائتا لغة، ويروى كلمه بأَلف لغة وكان يصف كلامه تعالى بالرعد القاصف مع حلاوته له عليه السلام، وعدم صعوبته، وقد قال أَبو منصور الماتريدي أَنه خلق له الكلام فى الشجرة، وروى: سمع صرير الأَقلام بالكلمات العشرة، وأَن ذلك كله أَول يوم من ذى الحجة، ولا تقل سمع كلامه القديم، وهو صفة أَزلية بلا صوت، لأَن القديم لا ينتقل ونحن لا نثبت الكلام القديم النفسى، بل كلامه تعالى خلق الكلام أَو نفى الخرس، أَو إِحاؤه، ولم يختص بإِذنه ليعلم أَنه من الله عز وجل لا من شيطان، كما روى أَن إِبليس غاص من بعيد حتى خرج من بين رجليه فقال له: إِن مكلمك شيطان، وعلم موسى أَنه من الله لسمعه من كل جهة وبجسده كله، ومن ذلك كان على وجهه مثل شعاع الشمس فغطاه ببرقع إِذ لا يقدر أَحد أَن ينظر إِليه، وقالت زوجه: لم أَر وجهك منذ كلمك ربك، فكشفه لها، فأَخذها مثل الشمس شعاع، فوضعت يدها على وجهها وخرت ساجدة، وقالت: ادع الله أَن أَكون زوجك فى الجنة، قال: ذلك إِن لم تتزوجى بعدى، فإِن المرأَة لآخر أَزواجها، { قَالَ } على لسان الذاهبين معه، وقال قومنا: هو من قول موسى على ظاهره { رَبِّ } يا رب { أَرِنِى } نفسك { أَنْظُرْ إِلَيْكَ } أَى أَرك، أَى أَظهر لى أَرك، أَو قونى على أَن أَراك ولو لم تظهر لى، أَو أَزل مانع الرؤية أَنظر إِليك، ويقال: لما استحلى ما سمع من الكلام هاج به الشوق إِلى طلب الرؤية، مع علمه بأَنها لا تكون فى الدنيا ولا فى الآخرة، لأَن ما نفيه مدح لا يختص انتفاؤه بزمان، ولأَن المرئى جسم فى جهة مركب متلون، والله منزه عن ذلك، فإِذا ادعى أَن يرى بلا كيف فذلك تناقض، ونفى الإِدراك ممنوع، فإِذا رؤى فقد أَدرك، ولو كان ذلك لا يطاق ولا يقدر على وصف، وانتفاء الرؤية ذاتى كما أَن انتفاءَ الشبه ذاتى وما هو ذاتى لا يتخلف بالدنيا والآخرة ولا يخفى أَن قدمه تعالى ينافى مباشرة الحادث، وإِلا كان حادثاً أَو الحادث قديماً، وكلا الأَمرين باطل، ومعلوم أَن القديم لا تحل به صفات الحادث والمخالف للحوادث لا تدركه الحوادث { قَالَ لَنْ تَرَانِى } لم يقل لن تنظر إِلىَّ، إِما لأَن النظر هنا إِما نفس الإِدراك بالعين فذاك وإِما توجيه الحدقة إِلى جانب المرئى وغايتها حصول الرؤية، فذكر الرؤية. وموسى منزه عن ذلك بل قال أَصحابه، ونفى الرؤية مدح فلا يختص موسى بانتفائها، وإِنما خص بالذكر لأَنه طلبها بإِفراد نفسه فأَجابه على الإِفراد فقال: لن ترانى، ولم يقل: لم أَر بالبناء للمفعول على صيغة العموم، ولا يقال لو كان الطلب منهم لبين لهم أَنهم أَخطأوا، لأَنَّا نقول أَنكر عليهم كما أَنكر عليهم إِذ قالوا: اجعل لنا إِلها، ولما تمادوا على طلب الرؤية أَراد النص من الله لهم جمعاً بين ما عنده من الدليل العقلى، وما يطلبه من الدليل السمعى، بل لو طلبها لعدم علمه بانتفائها لم يلزم شئ لأَنه يطلب العلم من الله سبحانه، والنبوة لا تتوقف على العلم بجميع الأَصول مرة قاله الحسن البصرى، ولا يقال: لو كان السؤال لهم لقال: أَرهم ينظروا إِليك، وقال الزيرونى: لأَنَّا نقول: تكلم بصيغة نفسه عنهم لأَنه إِذا منع الرؤية فأَولى أَن يمنعوها، ومنع موسى منع لهم لاستحالتها، كأَنه قيل: لست ممن يرى. كيف يحس الحادث القديم؟ { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } هو جبل زبير وهو أَعظم جبل بمدين وهو طور سيناءَ { فِإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } مع ظهور آية له { فَسَوْفَ تَرَانِى } هو لا يستقر له ولا يطيق وهو أَقوى منك، فكيف تطيق مع ضعفك، فأَحيا الله الجبل وجعل له العقل، وأَظهر له آية فلم يستقر كما قال { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } ظهر بظهور آية، وظهوره ظهور آية له، قيل أَظهر له من نور عرشه قدر نصف أَنملة الخنصر، رواه الحاكم حديثاً، وقال الضحاك: مثل منخر الثور من نور الحجاب، والحجاب جسم مخصوص ليس الله حالا فيه كالعرش والكرسى ليس فيهما، وعن عبد الله بن سلام وكعب الأَحبار، مثل سم الخياط، وعن سهل بن سعد قدر الدرهم { جَعَلَهُ دَكًّا } مدكوكاً أَو نفس الدك مبالغة، دقيق الأَجزاء كالتراب، أَو سوى بالأَرض أَو جعله كسراً، وقد قيل جعله جبالا صغاراً ستة: أَحداً وورقاءَ ورضوى بالمدينة. وثورا وثبيرا وحراءَ بمكة، وذلك كله لنور خلقه الله فكيف لو بدا الله جل عن صفة الخلق { وَخرَّ } سقط، يطلق ولو بلا صوت، وخصه بعض بماله صوت لجريه فى الهواء كالحجر الساقط من عالٍ، وعليه فإِطلاقه استعارة أَو مجاز الإِطلاق والتقييد، وذلك يوم عرفة، وإِعطاء الكتاب يوم النحر { مُوسَى صَعِقًا } مغشياً عليه سكران لهول ما رأَى من حال الجبل، وما نزل على الجبل من النور، وما يروى أَنه حين صعق لكزته الملائكة بأَرجلها وقالوا: أَتطمع فى رؤيته يابن النساء الحيض أَظنه كلاماً وضعته اليهود كذباً { فَلَمَّا أَفاقَ } من صعقه { قَالَ سُبْحَانَكَ } أَسبحك عن أَن ترى، وعن صفات الخلق دائماً بلا انقطاع تسبيحاً { تُبْتُ إِلَيْكَ } من سؤال الرؤية عن قومى بلا إِذن { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } من بنى إِسرائيل بما أَوحيت بأَنك لا ترى، وأَن صفات الخلق لا تليق بك ومنها رؤيتك فى الدنيا أَو الآخرة، وكل ما أوحى إِلى نبى من الأَنبياءَ فذلك النبى هو أَول من يؤمن به ممن معه أَو بعده، وذلك من حيث أَنه موحى إِليه به ولو علم قبله أَو علم بعده بدونه ودون وسائطه.