التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤
قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
١٥
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١٦
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
-الأعراف

تيسير التفسير

{ قَالَ أنْظِرْنِى } أَمهلنى { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أى يوم يبعث الناس، علم بالفهم أَو بوحى من الله عز وجل إِلى الملائكة أَن آدم وحواءَ ينسلان، وطلب الإِنظار إِلى يوم البعث ليصرف جهده إِلى إِغواء بنى آدم ليفسدوا، أَى كما فسدت بأَبيهم وبهم فى ضمنه، ودوا لو تكفرون كما كفروا، وأَيضا خص يوم البعث لئلا يبقى منهم أَحد إِلا طلبه بالإِغواءِ، ولئلا يذوق مرارة الموت فلا يموت لأَنه لا موت بعد البعث، فيكون حيا أَبدا فأَجابه الله بالإِنظار لكن إلى ما قبل وقت البعث { قَالَ } الله جل وعلا { إِنّكَ منَ الْمُنْظَرينَ } إلى يوم الوقت المعلوم، كما فى آيات أخر، وهو وقت نفخة الموت، ويجوز أَن يكون قد طلب إِنظار العقوبة أَى لا تعاقبنى قبل البعث، بل فى يوم البعث فيكون قد أَجاب الله دعاءه كله لا بعضه فقط كما فى التأويل الأول، وفى إِنظاره ابتلاء للناس فيشقى الشقى بمتابعته ويسعد السعيد بمخالفته، ويبعد أَن يكون الإِنظار فى قوله إِنك من المنظرين الإِنظار إِلى وقت البعث لكن يموت يوم البعث فيبعث الله الخلق عقب موته فيبعد دخوله فى قوله عز وجل إِلا من شاء الله، ويروى أَنه إِذا طلعت الشمس من مغربها سجد لله وقال: رب مرنى أَن أَسجد لآدم، فيدوم فى سجوده، وقوله ذلك حتى تخرج الدابة فتقتله، والله أَعلم بصحة ذلك. وفى آية أُخرى: مالك أن لا تكون، إِلخ، وفى أُخرى أَن تسجد، فقد جمع مخالفة الأَمر ومفارقة الجماعة والتكبر وتحقير آدم، ووبخ فى الأىِ الثلاث لا فى البقرة والإِسراء والكهف وطه، وطلب الإِنظار هنا، وأَجيب إِليه زيادة فى عذابه إِذ قد يجاب الكافر إِلى دعائه، فقال ما ذكر الله عز وجل عنه بقوله:
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } الفاء لعطف أقسم على إِنك من المنتظرين، ومحط التفريع هو قوله تعالى { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ومعنى التفريع أَنه بنى على إِنظاره قعوده وإِتيانه المذكورين، وانتفاءَ شكر الأَكثر، والباء للقسم كما فى قوله تعالى
" { فبعزتك لأَغوينهم } " [ص: 82] إِلخ، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولو جعلناها سببية لم نجد لها متعلقا إِذ لام لأَقعدن مانعة من تقديم المعمول فتحتاج إِلى تقدير متعلق مثل فبما أَغويتنى أَجتهد فى إِغوائهم، وهو دون تقدير فعل القسم، وأَيضا لأَقعدن جواب قسم ولا بد، فالقسم بهذه الباء أَولى من تقدير قسم آخر، وما مصدرية أَى باغوائك إِياى، أَقسم مرة بفعل الله وهو إِغواؤُه عز وجل إِياه لعنه الله، وهو خلق الغواية فيهِ، وأَصل اللفظ الفساد، يقال غوى الفصيل بمعنى فسد بطنه باللبن وهى بمعنى الضلال، ومرة بصفة الله وهى عزته تعالى، والمعتزلة يؤولون الإِغواءَ بإِحداث سبب الغى، أَو بالنسب إِلى الغواية، وهو من معانى أَفعل كما ذكرته فى شرح لامية ابن مالك، أَى نسبتنى إِلى الغى، ويرده ضعف هذا المعنى وكونه خلاف الأصل، كما أَن تفسيره إِحداث سبب الغى خلاف الأَصل، وبأَن ذلك كلام إِبليس غير حجة، ودعاهم إِلى ذلك الفرار من أَن يكون الله خالقا للأَفعال ولا سيما أَفعال المعصية، وقد أقر إِبليس لعنه الله عز وجل خلق المعصية ثم دعاهم إِلى نفى ذلك، وهذا كما قال قائل:

وكان فتى من جند إِبليس فارتقى به الحال حتى صار إِبليس من جنده

ونصب الصراط على الظرفية المكانية، ووجهه أَنه مبهم باعتبار أَجزاء دين الله فإِنه عدو الله يقعد فى كل جزءٍ أمكنه. ولو لم نعتبر هذا إِبهاما لم ينصب على الظرفية بل نقول نصب شذوذا على الخافض وهو فى أَو على وذكر بعض شراح كتاب سيبويه فى قوله: كما عسل الطريق الثعلب. أَنه يكفى فى الإِبهام النظر إِلى أَصل الوضع، والطريق فى أَصل وضعه كل أَرض تطرق أَى يمشى عليها، ثم خص بممر السابلة دون الجبال والأَوهاد، فالآية من ذلك باعتبار ما ذكره فإِن المراد بالصراط دين الله عز وجل مستعار عن طريق الأَرض، أَو مفعول به لتضمن أَقعد معنى لازم، والآية استعارة تمثيلية ودونها أن تكون كناية، وفى الآية تلويح بأَنه لعنه الله يقعد للقطع عن دين الله عز وجل قعود قطاع الطريق للسابلة، وفى تقدير على تلويح بالاستيلاءِ على الطريق والمواظبة على الإِفساد حتى لا يلحقه فتور عن الإِغواءِ، وذكر الجهات الأَربع مبالغة بأَنه يغويهم بكل ما أَمكن، ولم يقل ومن فوقهم ومن تحت أَرجلهم لأَن الجهتين لم توجدا فى المشبه به وهو مثلا الإِنسان يهلك الآخر من الأَربع لا منهما، وكذا فى الكنابة، ولأَن الإِتيان من تحت يوحش فلا يطاع، والإِتيان من فوق يمنع منه نزول الرحمة، ولما قال - لعنة الله - ذلك رقت الملائكة عليهم، فقالوا: يا إِلهنا كيف يتخلص الإِنسان منه، فأَوحى الله إِليهم أَنه بقى للإِنسان جهتان فإِذا رفع يديه فى الدعاءِ إِلى الفوق على سبيل الخضوع أَو وضع جبهته على الأَرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين عاما، وبدا بقدام وخلف لأَن الشجاع القوى يأتى مواجها وإِذا أَراد الاغتيال بالمكر فجأَة فمن خلفه فمن بين أَيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز ضد من خلفهم، وعن أَيمانهم وعن شمائلهم من حيث يمكن التحرز ولم يتحرزوا، وكان الجهتان بمن الابتدائية لأَنهما الغالب والأُخريان بعض لأَن الأَصل فى المجئ غيرهما، وإِنما يأتى العدو منها لداع يعرض فهو كالمنحرف المجاوز، وأَيضا ينفر عنهما للملكين فيهما، وقدمت الأَيمان لقوتها فالشجاع الأقوى يباشر الجهة القوية من عدوه ولا يبالى، ومن بين أَيديهم من إِنكار البعث والحساب والجنة والنار والتثبيط عن العمل الصالح وعن التوبة فإِن الآخرة مستقبلة، ومن خلفهم الدنيا لأَنهم فى الارتحال عنها يغريهم بلذتها أَو بالعكس لأَن الدنيا حاضرة كالشئ بين يديك والآخرة غير مشاهدة كالشئ خلفك، أَو عن أَيمانهم حسناتهم لأَن اليمين لمناولة الشئ الحسن وشمائلهم سيئاتهم لأَن الشمال لمناولة الشئ الخبيث، يقال هو عندنا باليمين، أَى بمنزلة حسنة عكس هو عندنا بالشمال، ولا تجد أَكثرهم شاكرين جواب ثالث للقسم قاله ظناً ولقد صدق عليهم إبليس ظنه، أَو رآه فى اللوح المحفوظ، أَو أَخبره به الملائكة الذين أَخبرهم الله، أَو رأَوه فى اللوح، ووجه ظنه أَنه رأَى كثرة دواعى الشغل عن الطاعة كالحواس الخمس الظاهرة، فقيل والخمس الباطنة وقوة الشهوة وهى فى الكبد وقوة الغضب وهى فى البطن الأَيسر من القلب والقوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وهن جسميات تدعو إِلى اللذات مع شياطين الإِنس والجن، فله داعى الطاعة وهو واحد وهو العقل، ويقال القوى أَربع خالية تجتمع فيها المحسوسات فى البطن المقدم من الدماغ وأَشار إِليها بقوله عز وجل من بين أَيديهم، ووهمية تحكم فى غير المحسوسات وهى فى البطن المؤخر كما قال ومن خلفهم، وشهوانية محلها الكبد عن يمين الإِنسان كما قال وعن أَيمانهم، وعضبية وهى فى القلب عن يسار الإِنسان كما قال عز وجل وعن شمائلهم.