التفاسير

< >
عرض

كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٣
وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ
٤
-الأعراف

تيسير التفسير

{ كِتَابٌ } هذا كتاب { أُنْزِلَ إِلَيْكَ } من الله يا محمد، والمضى لتحقق الوقوع، والبناء للمفعول للعلم بالفاعل وللبناء على تحقق أَنه من الله ولو كذبوه، والمراد ما نزل كله، أَو القرآن كله، لأَن نزول بعضه شروع في نزوله فهو كالشيء المدلى وصل بعضه ويصل باقيه بعد، كما أَنه إِذا جعلناه اسماً للسورة فقد وصفها بالنزول وما نزل إِلا أَولها، وجملة أُنزل نعت كتاب، وإِذا جعل اسماً للسورة أَو للقرآن فهو مبتدأ خبره كتاب، أَو هو حروف مراد بها التنبيه على تلقي ما يوحى إِليه من جنس الحروف، أَو هذا المحتوى به مؤلف من جنس هذه الحروف، أَو المؤلف على جنس هذه الحروف كذا، وكتاب على هذا خبر لمحذوف، أَي وهذا المؤلف كتاب أنزل { فَلاَ يَكُنْ فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ } شك { مِنْهُ } أَي بسببه، نعت حرج أو متعلق به، والحرج الضيق، وعبر به هنا عن ملزومه وسببه، فإِن الضيق يلزم الشك، فالشك ملزومه ويتسبب عن الشك فالشك سببه، وذلك أَن قلبه صلى الله عليه وسلم لا يضيق بإِنزال الكتاب وبنفس الكتاب أَو بكونه من الله لأَنه مصدق بذلك مذعن له منشرح له. وإِنما ضاق بخوف أَن لا يقبله الناس، وخوف اَن لا يقوم بحقه، " { فلعلك تارك بعض ما يوحى إِليك وضائق به صدرك أَن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أَو جاءَ معه ملك } " [هود: 12] أو جرت الآية مجرى قوله تعالى: " { فَلاَ تَكُونَنَّ من الممترين } " [يونس: 94] والمنهى الحرج لأَنه فاعل يكن أَو اسمه، ويكن دخل عليه النهى فهو من نهى الغائب، ولو قيل لا تحرج لكان نهياً للمخاطب، والمراد: دم على عدم الحرج، أَو ازدد من منافاة الحرج، أَو اللفظ له والمراد أمته، وفي النهي عن الحرج مبالغة بالتعبير عن عدم كونه في حرج بعدم الحرج في قلبه فذلك نهى عما يورث الاتصاف بأَنه صلى الله عليه وسلم حرج، نهى عن المسبب فالنهى عن السبب بطريق البرهان. وإيضاح ذلك أَن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضاً للحرج، فذكر اللازم وأريد به اللزوم وهو معنى الكناية وهي أَبلغ من الحقيقة لأَن فيها إِثبات الشيء ببينة. وفي ذلك كناية أُخرى وهي أَنه توسل بالنهي عن الحرج إلى النهي عن الشك، لأَن الشاك ضيق الصدر فالحرج من لوازم الشك فذكر اللازم وأُريد اللزوم، وكذا الأمة، إِلا أَن حرجهم الشك في أَنه من الله عز وجل وعطف لا يكن إِلخ، وهو طلب على قوله أنزل إِليك وهو إِخبار لأَن معنى أنزل إِليك تيقن بإِنزاله فهو أَمر معنى، أَو معنى لا يكن إِلخ، لا ينبغي أَن يكون حرج فهو إِخبار معنى، أَو يقدر: إِذا رسخ في قلبك فضل رسوخ نزوله إِليك فلا يكن في صدرك حرج منه، ويجوز تقدير مبلغه فلا يكن إِلخ، وقدم فلا يكن في صدرك حرج منه على قوله { لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى } أَى تذكير { لِلْمُؤْمِنِينَ } مع أَن لتنذر به إِلخ علة لأنزل متعلق به تنبيها على أَن الأَليق إِزالة الحرج عن الإنذار والإِعراض عن تكذيبهم إِياه لأَنه من الله فالله ناصره فكيف يخاف. وقيل متعلقة بمتعلق الخبر، هكذا إِلا يكن الحرج مستقراً في صدرك لأَجل الإِنذار، وكأَنه قيل لا يكن لأَجل الإِنذار في صدرك حرج. ومعناه صحيح لا فاسد كما قيل، وقيل متعلقة بحرج كأَنه قيل حرج صدرك للإِنذار لا يجوز، وذكرى معطوف على كتاب والأَول أَولى ولا حاجة إِلى تقدير هو ذكرى. والمعنى لتنذر به من يتأهل للإِنذار وهم المكلفون، وللتذكير لمن تقدم إِيمانه أَو لتذكر تذكيراً، أَو المراد { المص كتاب أُنزل إِليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى } [الأعراف: 1 - 2] ولما أَمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ أَمر أمته بالإِذعان والقبول فقال:
{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ } وهو القرآن وسائر الوحي، وسنته القولية والفعلية والتقريرية، واجتهاده إن قلنا به لأَن الله يصدقه فيه ويجعله حجة، وما لم يرضه بينه له فيتركه. والإِنزال إِلى السورة والقرآن، وأَسنده إِلى المكلفين مطلقاً لأنهم كلفوا به، وفي إِسناده إِليهم توكيد للاتباع ووجوبه، وأَسند سابقاً إِليه صلى الله عليه وسلم على الأَصل إِذ تلقى النزول ولتأكيد الإِنذار وترك الضيق، وإِن أَوقعناها على الكتاب فقط فذلك وضع للظاهر موضع المضمر { وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ } حال من أَولياء أَو متعلق بتتبعوا أَي من دون ربكم، وهذا أَنسب بقوله { أَوْلِيَاءَ } من الجن والإِنس باتباعهم في المعصية، ويجوز عود الهاء إِلى ما أَنزل، أَي ولا تتبعوا من دون دين الله دين أَولياءَ، ويضعف عوده إِلى الاتباع أَي ولا تتبعوا أَولِيَاءَ اتباعا كائنا من دون اتباع ما أنزل { قَلِيلاً مَا تَذَكرُونَ } ما صلة لتأكيد القلة، أَي تذكرون زمانا قليلا فقط، أَو تذكرا قليلا فقط، وذلك حصر بالتقديم. أَو مصدرية والمصدر مبتدأ وقليلاً ظرف زمان خبر قدم للحصر أَي في زمان قليل تذكركم، ويضعف كون ما نافية، أَي ما تذكرون زماناَ قليلاً أَو تذكراً قليلاً فكيف التذكر الكثير والزمان الكثير، وأَوعدهم على ترك الاتباع بقوله:
{ وَكَمْ مِّنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فِجَاءَهَا بَأْسُنَا } أَي كثيرٌ همْ أَهل قرية أَهلكناهم فجاءَهم بأْسنا، حذف المضاف فعاد الضمير للقرية، أَو القرية مجاز عن أَهلها للحلول، أَو موضوع لهم أيضاً كما وضع لها، والمراد أَردنا إِهلاكها، والإِرادة التنجيزية هنا القصد وإِلا فمجئ البأس مقارن لها لا متعقب لها ولا بعدها. وليس المراد الإِرادة الأَزلية وإِلا لزم قدم شئ غيره تعالى وهو البأس المتعقب لها، وإِن تأَخر كان العطف بثم لا بالفاء والمجئ بعد الإِرادة التنجيزية وبعد الخذلان، والعطف في قوله وكم إِلخ عطف اسمية على فعلية إِن جعلنا أَهلكنا خبرا لِكَمْ وإِن نصبنا كَمْ على الاشتغال على أَن ضمير النصب عائد إِلى كَمْ لأَنها بمعنى القرى ففعلية على فعلية والفاء لترتيب الذكر. أَو بمعنى الواو أَو لتفصيل المجمل أَو أُريد بإِهلاك القرية إِخرابها فلا حذف. والبأس العذاب. وعبارة بعض: الفاء تفسيرية نحو توضأَ فغسل وجهه إِن لم يؤول بنحو الإِرادة. وقيل حكمنا بإِهلاكها فجاءَها بأْسنا، وقيل أَهلكناها بدون استئصال فجاءَها بأْسنا باستئصال. وقيل مجئ البأس ظهوره، وقيل خذلناها لجاءَها بأْسنا، والمراد بالخذلان خلق الفسق فيها، أَو يقدر خلق الفسق فيها فجاءَها، والإِهلاك بمعنى الخذلان استعارة أَو من مجاز التسبب أَو اللزوم { بَيَاتًا } مصدر بمعنى بائتين أَو ذوى بيات، وهو حال أَو مفعول مطلق لحال محذوف أَى بائتين بياتاً { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } عطف الحال التي هي جملة على حال مفردة بأَو المعطوف على الحال حال بلا واو حال كما تقول جاءَ زيد فرحا ومنصوراً، فكأَنه قد ربطت بواو الحال كما هو الغالب في الجملة أَن تكون بواو الحال أو مع الضمير لا الضمير، فلا حاجة إِلى دعوى أَن الأَصل أَو وهم قائلون حذفت واو الحال لئلا يجتمع واوان أَو صورتا عاطفين أَو واو الحال إِذ أَصل العطف وكأنه قيل جاءها بأسنا بائيتن ليلا كقوم لوط أَو قائلين كقوم شعيب نائمين أَو مستريحين فيه بلا نوم، وخص الوقتين لأَنهما وقت أَمن وراحة فالعذاب فيهما أَفظع لفعلتهم.