التفاسير

< >
عرض

يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

تيسير التفسير

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } كرر الخطاب بوصف الإِيمان تنشيطاً وإِيذاناً بأَن ما بعده ما يوجب الإِيمان به { إِنْ تَتَّقُوا اللهَ } فى أَحوالكم باتباع العمل للقول { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فصلا بينكم وبين ما تخافون من ضر الدين أَو الدنيا فلا تصيبكم، أَو الفرقان هدى ينور به القلب فيميل إِلى الحق ويجانب الباطل، أَو نصر، أَو إِذلال العدو لكم يتبين به لكم المحق من المبطل، أَو برهانا يزيل عنكم الشبهة فى الدين، أَو ظهوراً ينشره ذكر جميلكم أَو نجاة فى الدارين، أَو ذلك كله { وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } كبائر وصغائر يسترها ولا يفضحكم بها يوم القيامة بإِظهارها لأَهل الحشر، ولا يشينكم بها فى الدنيا، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أَى ذنوبكم كبائر وصغائر بأَن يعفو عنكم ولا يعاقبكم عليها، أَو السيئات الصغائر والذنوب الكبائر أَو السيئات ما تقدم من الكبائر والصغائر والذنوب الكبائر، المتأَخرة لأنها فى أَهل بدر، وقد غفر لهم، وهذا ضعيف لأَن فيه مراعاة الواقع دون لفظ الآية، وفى الحديث يرويه قومنا "لعل الله اطلع إِلى أَهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" { وَاللهُ ذُو الفَضْلِ الْعَظِيمِ } تفضل عليكم فى رحمته ومغفرته، ولا واجب عليه، فلو شاءَ لم يثبكم على أَعمالكم، وقد اقتضت حكمته أَلا يعذبكم فى الآخرة وأَنتم مطيعون، وذكره ليشكر بما أَنعم عليه من التنجية من قريش حين كان فى مكة بقوله:
{ وَإِذْ } اذكر إِذ، أَو اذكر الواقع إِذ يمكر، أَو إِنعامه بالإِنجاء إِذ يمكر { يَمْكُرُ بِكَ } أَى مكروا والمضارع لحكاية الحال الماضية { الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } فلا تنتقل عن موضعك بالوثاق بالحديد، أَو الحبس فى بيت، أَو الضرب أَو الجرح، وذلك رأى البخترى ابن هشام بفتح الموحدة وإِسكان الخاء المعجمة وضم المثناة، أَو بفتح الموحدة والمثناة حين اجتمع فى دار الندوة للمشاورة فى أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من كبار قريش هو وعتبة وعتيبة ابنا ربيعة وأَبو جهل وأَبو سفيان وطعمة بن عدى والنضر بن الحارث وعمر ابن هشام، ومن بنى عامر بن لؤى، وعن أَبى البخترى: أَوثقوه فى بيت وسدوه عليه إِلا كوة لطعامه وشرابه ومتاعه حتى يموت كما مات الشعراء قبله كزهير والنابغة. فقام إِبليس فى صورة شيخ جليل، وقال أَنه من أَهل نجد حضر الباب، وقال: سمعت بشأنكم وأَنا من أَهل نجد، ولن تعدموا منى رأياً، فأَدخلوه، قال: بئس الرأى، يخرجه أَصحابه وقومه، فقالوا: صدقت، والدار بناها قصى للمشاورة لأَمر يحدث ولا يجتمعون لمهم إِلا فيها، والندوة الجماعة، وهى أَول دار بمكة لما حج معاوية اشتراها بمائة أَلف درهم، ثم أدخلت فى الجانب الشمالى من المسجد الحرام { أَوْ يَقْتُلُوكَ } يقتلك متعددون من كل قبيلة واحد فتشترك القبائل كلهم فى قتلك تعطون من كل قبيلة شاباً سيفاً صارماً فيضربونه بمرة فيفترق دمه على القبائل، فلا يقدر بنو هاشم على حرب قريش كلها وتعطونهم الدية. قاله أَبو جهل، فقال إِبليس لعنهما الله: هذا هو الرأَى لا أَرى غيره، فقاموا عليه. ويسمى يوم اجتماعهم للمشاورة فى الدار يوم الزحمة، اتفقوا من اليوم قبله أَن يجتمعوا فيها ضحى { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة، قال هشام بن عمرو: أَخرجوه على بعير، فلا يضركم ما فعل غائبه، فقال إِبليس - أَعاذنا الله منه ومن أَعوانه -: يجمع الناس عليكم بحلاوة لسانه وطلاقته فيجتمعون فيخرجونكم من بلادكم، بئس الرأى. وأَخبر جبريل النبى صلى الله عليه وسلم الإِمام علياً فى مضجعه ببردته، ويروى بثوب أَخضر، وقال: قد يصيبك ضر منهم، فخرج منهم من الباب لا من الحائط كما قيل وهم منتظرون عند الباب، وأَلقى الله عليهم نوماً، أَو أَخذ بأَبصارهم، ونثر على رءُوسهم تراباً وهو يتلو يس... إِلى: فهم لا يبصرون. وقال لهم رجل مر عليهم: ما وقوفكم؟ فقالوا: ننتظر محمداً.. فقال: خيبكم الله، قد خرج فى حاجته وما منكم إِلا وعلى رأسه تراب منه. والرجل أَبصر التراب عليهم ليلا بقدرة الله عز وجل، فوجدوا ذلك وما أَصابت أَحداً منهم حصاة إِلا قتل يوم بدر على أَنه دماهم بالحصا أَو بتراب فيه الحصا، وروى أَنهم هموا بالدخول عليه فصاحت امرأَة من الدار، فقالوا: نعاير بتسور الجدار على بنات العم فأَقاموا إِلى الصبح عند الباب، { وَيَمْكُرُونَ } يحتالون على إِهلاكه وإِبطال دينه { وَيَمْكُرُ اللهُ } أَى يبطل مكرهم، أَو يجازيهم عليه ويرد عليهم مثله مؤثراً فيهم، أَو يعاملهم معاملة من يريد إِهلاك أَحد باحتيال وخفية بأَن خيل لهم أَنهم غالبون، وأَن المسلمين لقلتهم مغلوبون فخرجوا إِلى بدر بقضاء الله عز وجل. يشبه إِيقاعه ذلك بالمكر على الاستعارة التمثيلية أَو المفردة التبعية أَو المجاز الإِرسالى فقتلهم المسلمون، وسمى ذلك كله مكراً للمشاكلة. وقد قيل: لا يطلق عليه إِلا مع ذكر مكر الناس، واعترض بقوله تعالى:
" { أَفأَمنوا مكر الله } " [الأَعراف: 99] إِلخ. وأجيب بأَن التقدير أَمكروا فأَمنوا مكر الله، ويجاب بأَن الأَصل عدم التأويل، ويقول الإِمام على: من وسع عليه فى دنياه ولم يعلم أَنه مكر به فهو مخدوع فى عقله، وأَجيب بأَن مخدوع بمعنى ممكور به { وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } مكره أَفضل من كل مكر فى القوة والخفاء، أَو فى مكرهم حسن فى زعمهم لكن مكر الله تعالى أَحسن، ولا مانع من كون مكر الله تمثيلا فى الموضعين بأَن شبه تقليل المسلمين فى أَعينهم وظنهم أَنهم غالبون لهم باستعداد أَحد شيئاً، وظنه أَنه نافع، ولا يقال كما زعم بعض أَن المعنى فعل الله مطلقاً خير من كل فعل لأَن هذا صح من جهة المعنى، ولا يصح تفسير الآية لذكره الماكرين، لا يقال: زيد أَفضل القائمين، ويراد أَفضل القاعدين أَيضاً ونحو ذلك فإِنه فى شأَن غير القيام كقولك زيد القائم خير من القاعدين إِلا على ضرب من التأويل كقولك للعسل فى حلاوته أَعظم من الخل فى حموضته أَو العكس.