التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ
٧
-الأنفال

تيسير التفسير

{ وَإِذْ } واذكر إِذ { يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ } بوحى جبريل إِليه صلى الله عليه وسلم إِجمالا فيهما، أَبى جهل ومن نفر معه من مكة، والعير الآتية من الشام لقريش من تجارتهم وما فيها إِلا أَربعون رجلا رئيسهم أَبو سفيان ومعه عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل اشتمال من إِحدى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } الشوكة البأس والسلاح مستعار من واحدة الشوك. شبه حدة الرمح ونصل السهم بحدة شوك النبات كشوك النخلة، وشجر الطلح، وذات الشوكة أَبو جهل وأَصحابه، النافرون من مكة وغيرها غير الشام، ولم يذكر ذلك بحصر لأَنهم ما قالوا لا نقصد إِلا غير ذات الشوكة، بل قالوا نقصدها، ولو كان المراد ترك ذات الشوكة، ولما قالوا ذلك غضب صلى الله عليه وسلم، وأَيضا لما فرغوا قيل له: عليك بالعير. فناداه العباس وهو فى وثاقه: لا يصلح لك ذلك، فقال: لم؟ فقال: لأَن الله وعدك إِحدى الطائفتين - سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم أَو من الصحابة - وقد نجت إِلى طريق الساحل. روى أَنه صلى الله عليه وسلم خرج ليأخذ عير أَبى سفيان وأَصحابه القافلة من الشام، فأَخبر أَبا سفيان بعض أَهل البدو، أَو المسافرون، فأَخذ طريق الساحل، واستأجر ضمضم الغفارى ليذهب إِلى أَهل مكة فجاءُوا، وقد نجت بأَخذ طريق الساحل، ساحل البحر، وترك الطريق المعهود، فقيل لأَبى جهل: ارجع، إِذ نجت، فأَبى، وقال له أَبو سفيان: ارجع وعلىَّ عيب الرجوع فأَبى. وكذا قال له غيره، وأَبى، وسار ليسمع الناس أَنه مضى إِلى بدر ويشرب فيها، وليقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جاءَه، وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصحابه، وقال: إِن الله وعدنى إِحدى الطائفتين فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك، وقال: لم نستعد له، وذلك بوادى دقران - بفتح الدال فإِسكان القاف - قريب من الصفراءِ، وغضب صلى الله عليه وسلم، وقال: إِن العير مضت على ساحل البحر، وهذا أَبو جهل قد أَقبل، فأَحسن أَبو بكر ثم عمر القول بالإِجابة إِلى القتال، ثم قال سعد بن عبادة: انظر أَمرك فامض فيه، فوالله لو سرت إِلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأَنصار، ثم قال المقداد بن عمرو، وهو المقداد بن الأَسود: امض كما أَمرك الله، فإِنا معك حيثما أَحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل لموسى "اذهب أَنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون" ولكن: اذهب أَنت وربك فقاتلا إِنا معكما مقاتلون. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أَشيروا علىَّ أَيها الناس - يريد الأَنصار - وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أَنهم برءَاء من ذمامه حتى يصل إِلى ديارهم، فتخوف أَلاَّ يروا نصرته إِلا على عدو هجم عليه بالمدينة - فقام سعد بن معاذ فقال: كأَنك تريدنا يا رسول الله، قال: أَجل. قال: إِنا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أَن ما جئت به هو الحق، وأَعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أَردت، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا أَحد، وما نكره أَن تلقى بنا عدونا، وإِنا لصبر عند اللقاءِ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى. فنشطه قوله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "سيروا على بركة الله وأَبشروا، فإِن الله قد وعدنى إِحدى الطائفتين، والله لكأَنى أَنظر إِلى مصارع القوم" وبسطت الكلام على ذلك جدا فى شرح نونية المديح بحول الله وقوته، ولما نجت العير على أَن الطائفة الموعود بها هى النفير، وخص العرض لأَن عرض البحر أَصعب من طوله، وسمى ذلك الموضع بدرا، لأَن رجلا اسمه بدر حفر فيه بئرا، ولأَن البدر يرى فيها لصفاءِ مائها، وفيه سوق للعرب، ولما بلغ الخبر أَبا جهل أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لأَجل العير طلع فوق الكعبة فقال: يا أَهل مكة.. النجاءَ النجاءَ - أَى السرعة السرعة - على كل صعب وذلول - أَى على أَى دابة صعبة أَو سهلة - عيركم وأَموالكم إِن أَصابها محمد لن تفلحوا بعدها أَبدا، وقد أَرسل إِليهم أَيضا أَبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفارى، كما مر، ورأَت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبى صلى الله عليه وسلم قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال رؤيا أَفزعتها، فبعثت إِلى أَخيها العباس رضى الله عنه، فقالت له: والله يا أَخى، لقد رأَيت الليلة رؤيا أَفزعتنى، وخشيت أَن يدخل على قومك منها شر، فقالت له واستكتمته: رأَيت راكبا أَقبل على بعير له، حتى وقف بالأَبطح، وصرخ بأَعلى صوته: أَلا انفروا يا آل غدر لمصارعكم فى ثلاث بعد ثلاثة أَيام. ودخل المسجد، واتبعه الناس ثم مثل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ كذلك، ثم على أَبى قبيس كذلك، ثم أَخذ صخرة فأَرسلها تهوى حتى كانت بأَسفل الجبل تفرقت ودخلت كل دار فرقة منها. فاستكتمتها كما استكتمته، إِلا أَنه لقى عتبة بن ربيعة، وكان صديقه، واستكتمه، وذكرها عتبة لابنه، ففشى فى قريش، ودخل العباس المطاف، فقال أَبو جهل - لعنه الله - يا أَبا الفضل، إِذا فرغت من الطواف فأَقبل إِلينا، فطاف فأَقبل إِليه، فقال له: يا بن عبدا لمطلب متى حدثت هذه النبيئة فيكم؟ قال: ماذا؟ قال: رؤيا عاتكة، يا بنى عبد المطلب أَما رضيتم أَن تتنبأَ رجالكم حتى تنبأَت نساؤكم، فإِن مضت الثلاث ولم يكن شئ كتبنا أَنكم أَكذب بيت فى العرب.. قال العباس: وأَنكرت أَن تكون رأَت، ولما أَمسيت لم تبق امرأَة من بنى عبد المطلب إِلا أَتتنى وقالت: أَقررت هذا الفاسق الخبيث أَن يقع فى رجالكم ثم قد تناول نساءَكم. فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة إِلى المسجد لأَشتمه، وإِنى لأَمشى إِليه لذلك، وكان خفيفا حديد اللسان، إِذ سمع صوت ضمضم يصرخ ببطن الوادى، واقفا على بعيره، وقد جدع أَنف بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أَموالكم مع أَبى سفيان قد عرض لها محمد فى أَصحابه لا أَرى أَن تدركوها، الغوث. فشغلنى ذلك عنه، وأَسرع الناس ولم يتخلف أَحد إِلا أَبو لهب، أَرسل رجلا مكانه { وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ } أَن يثبت الحق ظاهرا عاليا على الدين كله مشهورا، وإِلا فهو ثابت مطلقا { بِكَلِمَاتِهِ } بمعلوماته من أَسباب النصر، كنزول الملائكة وإِلقاءِ الرعب بمثل إِلقاءِ الحصى فى الطست وقتالهم إِذا أَراد الله قتال بعضهم بعضا، أَو بآياته المتلوة المنزلة فى هذا الشأن، أَو بما قضى من الأَسر والقتل والطرح فى البير، ولذلك أَمركمْ بقتال النفير، وصرف عنكم العير، وما طلب العير إِلا سفساف أَمر، وأَين هى من إِعلاءِ الحق { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } يستأصلهم، فإِذا قطعت ما لاقاك من الشئ حتى قطعت ما كان منه آخراً فقد عممته بالقطع، ولا يصل إِلى قطع آخر الشئ المستقبل إِليك وقد قطعت أَوله، وصوره أَيضاً مدبراً فاتصلت بآخره وأَهلكته فأَوله هنالك أَيضاً بفراره لأَنه انهزام.