التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
١٢٧
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٢٨
-التوبة

تيسير التفسير

{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ } حال حضورهم { سُورَةٌ } بعض القرآن تمت السورة أَو لم تتم { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } نظر تغامز إِنكارا وسخرية وغيظاً لعيوبهم التى فيها، وربما ضحكوا بإِخفاء أَو تبسموا، وإِذا لم يذكر فيها عيوبهم لم يغتاظوا، ويجوز أَن يكون المراد وإِذا ما أُنزلت فى معايبهم، والسورة غير الأُولى لأَنها نكرة، وذلك على الأَصل { هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ } مفعول به على الحكاية لنظر أَو تفسير لبعض ما يتضمنه لأَن نظرهم معتاد عندهم فى الاستفهام عن رؤية أَحدهم أَو مفعول ليقولون محذوف حالا أَو مستأْنفاً، ويجوز تقدير قائِلين هل إِلخ. وكانوا يخافون أَن يراهم المسلمون خارجين عن محل النزول { ثُمَّ انْصَرَفُوا } على كفرهم إِن لم يكن أَحد يراهم خوفاً من الافتضاح واستراحة عن المجلس لأَنهم كارهون به وإِلا أَقاموا. وجزاهم الله عز وجل عن انصرافهم عن مجلس الوحى بصرف قلوبهم عن الهدى صرفاً بعد الصرف الأَول جزاءً وفاقاً فى قوله { صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ } وهو إِخبار من الله عز وجل لا دعاء لأَن الله لا يدعو لأَنه المالك لكل شىءٍ إِلا أَن يقال أَمر للمسلمين بالدعاءِ عليهم، أَو جاءَ على طريق الدعاءِ عليهم من الله تعالى على طريق مجىءِ لعل وعسى لا على التحقيق { بِأَنَّهُمْ } لأَنهم { قَوْم لاَّ يَفْقَهُونَ } عادتهم الاعراض عن التدبر وسوءِ الفهم، ومن أَين يدركون الحق أَو يعملون به، وقد سبقت لهم الشقوة حتى أَنهم يريدون الضحك عند تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل من القرآن فيعالجون تركه لئَلا يفتضحوا، وقد يبلغهم الضحك فيفتضحون ويزعمون أَنهم لا يقدرون على استماع القرآن فيريدون الخروج من المسجد، والسورة نزلت فى التشديد والتكاليف الشاقة فختمها بما يسهل تلك التكاليف فقال:
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ } يا معشر العرب من الله { رَسُولٌ } عظيم لم يرسل مثله، ويبعد ما روى عن سعد بن أَبى وقاص لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة قلت جهينة: نزلت بين أَظهرنا فأَوثق لنا منك وتأَمنا. فقال: لم؟ قالوا: نطلب الأَمن. فنزل { لقد جاءَكم رسول } { مِنْ أَنْفُسِكُمْ } معشر العرب لا من العجم ولا من الملائكة ولا من الجن، تعرفون أَحواله وصدقه ولغته وعزه عز لهم، رؤوف رحيم فكيف لا تحبونه ولا تسارعون في اتباعه ونصره، وأَنتم تعرفون أَن نسبه أَفضل أَنسابكم كما قرىء بفتح الفاءِ بمعنى أَشرفكم، وإِنه وإِياكم من ولد إِسماعيل بن إِبراهيم خليل الرحمن. قال ابن عباس: لا قبيلة من العرب إِلا ولدت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعله أَراد مضر وربيعة واليمنية، فإِنه قيل: لم ينل نسبه جذيمة وغسان ولخم وثقيف، والله أَعلم بحقيقة الحال، فأَما ربيعة ومضر فمن ولد معد بن عدنان وقريش منهم وأُمه آمنة لها نسب فى الأَنصار وهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبإِ، صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فقال بعد حمد الله والإِثناء عليه:
"من أَنا؟ " فقالوا: أَنت رسول الله. قال: "نعم، أَنا محمد بن عبدالله بن ابن عبد المطلب، إِن الله تعالى خلق الخلق فجعلنى فى خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلنى فى خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلنى فى خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلنى فى خيرهم بيتاً، فأَنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً" . رواه المطلب بن ربيعة. وقال صلى الله عليه وسلم: "إِن الله اصطفى من ولد إِبراهيم إِسماعيل، واصطفى من ولد إِسماعيل كنانة، واصطفى من ولد كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم" . رواه واثلة بن الأَسقع ويروى: واصطفى من بنى هاشم عبد المطلب، واصطفى من بنى عبد المطلب أَبى، واصطفانى من أَبى. وعن أَنس عنه صلى الله عليه وسلم: "لم يصبنى من عهر الجاهلية شىءٌ، وخرجت من نكاح ولم أَخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إِلى أَبى وأُمى، فأَنا خيركم نفساً، وخيركم أَباً" . والمراد بأَنفسهم الجنس والأَمثال وهو مجاز مرسل واستعارة لأَنهم كنفس واحدة. قال الله عز وجل: " { لقد من الله على المؤمنين إِذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } " [آل عمران: 164] والمراد مؤمنو العرب. { عَزِيرٌ } شديد صعب نعت لرسول سببى { عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } ما مصدرية، والمصدر فاعل عزيز والعنت المشقة كسوءِ العاقبة والوقوع فى العذاب. أَو عزيز خبر والعنت مبتدأٌ والجملة نعت رسول والأَول أَولى { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } على خيركم الدنيوى والأُخروى ومنه الإِيمان { بِالْمُؤْمِنِينَ } متعلق بقوله { رَءُوفٌ } أَو بقوله { رَّحِيمٌ } فيقدر للآخر لا على التنازع بل مجرد حذف لدليل وتعليقه بالأَول أَولى. قال ابن عباس والحسن بن الفضل: لم يجعل الله لأَحد من أَنبيائِهِ اسمين من أَسمائِه إِلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رءُوف رحيم. ومن كلام فى تقديم الرأْفة على الرحمة: قدمت مع أَنها أَشد من الرحمة للفاصلة، أَو لأَنها الشفقة والرحمة الإِحسان أَو لأَن أَثرها رفع المضار، وهو تخلية، والرحمة جلب النفع وهو تحلية، والتخلية لأَنها أَهم تقدم على الحلية، كما قدمت فى قوله تعالى رأْفة ورحمة ورهبانية، وقدم بالمؤمنين على طريق الاهتمام بهم فى مقام الخير وللحصر وللفاصلة، ولا رحمة للكافر، وما صعب على المؤمنين رحمة لهم ينال بها المراتب الأُخروية والدنيوية، ويقال رءُوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين، ورءوف بأَقربائه رحيم بأَوليائِه، ورءُوف بمن يراه ورحيم بمن لم يره، ولا حديث فى ذلك.